من أجل تيتانيوم أوكرانيا

بانوراما 2023/02/25
...

  ديفد برينان 

  ترجمة: أنيس الصفار                                             

أسفر الدعم الغربي لأوكرانيا على مدى العام المنصرم عن ربط الولايات المتحدة وحلفائها في الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الاطلسي، «الناتو»، بمصير كييف ارتباطاً لا انفصام له، لأن الغزو الثاني الذي شنه الرئيس «فلاديمير بوتين» على هذا البلد قد ارتد كما يبدو بنتائج عكسية، فدفع بأوكرانيا إلى احضان المجتمع الأوروبي الاطلسي اكثر فأكثر، كما رسخ طموح كييف في اكتساب عضوية الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الاطلسي.  ثمة مسعى جديد لا يزال في أول أطواره الآن في الولايات المتحدة والدول الحليفة لها من أجل تحديد وتطوير واستغلال موارد أوكرانيا الضخمة من معدن رئيسي له اهمية بالغة في تطوير التكنولوجيا العسكرية الأعلى تقدماً لدى الغرب، التي باتت عماد الردع المستقبلي بوجه روسيا والصين. والمعدن المقصود هنا هو التيتانيوم.
التيتانيوم معدن خفيف الوزن لكنه شديد القوة وهو يستخدم على نطاق واسع في التطبيقات العسكرية المتقدمة مثل المقاتلات النفاثة والمروحيات وسفن البحرية والدبابات والصواريخ بعيدة المدى والعديد غير ذلك.

فإذا ما انتصرت أوكرانيا في الحرب ستكون الولايات المتحدة وحلفاؤها في موقع متقدم ومميز لفتح قناة جديدة يتدفق منها التيتانيوم. اما اذا ما نجحت روسيا في الاستيلاء على مخزونات هذا البلد ومصانعه فسوف تتمكن موسكو من تعزيز نفوذها عالمياً على تلك الموارد التي تزداد اهميتها الستراتيجية بشكل مطرد.


سلعةٌ حيويَّة

تصنف وزارة الداخلية الأميركية معدن التيتانيوم بأنه واحد من 35 سلعة معدنية ذات اهمية حيوية للأمن الاقتصادي والقومي الأميركي، لكن الولايات المتحدة لا تزال تستورد اكثر من 90 بالمئة من خام الحديد الذي تحتاج اليه، وهذا لا يأتي كله من بلدان صديقة. 

لم تعد الولايات المتحدة تحتفظ باسفنج التيتانيوم في مخزونات دفاعها القومي، وقد اغلق آخر منتج محلي لاسفنج التيتانيوم ابوابه في 2020، اما أوكرانيا فهي إحدى سبع دول فقط تنتج اسفنج التيتانيوم، وهي المادة الاساس التي ينتج منها معدن التيتانيوم، وضمن المجموعة المنتخبة المذكورة تقع الصين وروسيا اللتان تعتبران ابرز المنافسين الستراتيجيين لأميركا.

وفقاً للمسح الجيولوجي الأميركي أنتجت الصين في العام الماضي اكثر من 231 ألف طن من اسفنج التيتانيوم، وهذا يشكل نحو 57 بالمئة من الانتاج العالمي. من بعدها جاءت اليابان بنسبة 17 بالمئة ثم روسيا بنسبة 13 بالمئة، اما كازاخستان فقد انتجت ما يقارب 18 ألف طن وأوكرانيا اكثر من اربعة آلاف طن.

توظيف موسكو موارد الطاقة في أغراض التسلح يثير المخاوف لدى واشنطن وغيرها من عواصم حلف الناتو خشية ان يعمد الكرملين ذات يوم إلى تجميد صادرات التيتانيوم، وعندئذ تقع صناعتا الطيران والدفاع في ورطة عويصة.

الاعتماد الغربي على التيتانيوم الروسي هو السبب الذي جعل هذا المعدن ينجو حتى الآن من حملة العقوبات التي توجهها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وحلفاؤهما ضد موسكو. وقد تمكنت شركة الطيران العملاقة «بوينغ» من المحافظة على مشاريعها المشتركة مع شركة «VSMPO-Avisma» الروسية، وهي اكبر مصدر للتيتانيوم في العالم، ولو أنها جمدت الطلب في اعقاب الغزو. اما الشركات الاخرى، مثل مؤسسة «أيرباص» الأوروبية للطيران التجاري، فقد استمرت في الاعتماد على الشركة الروسية كمصدر للتيتانيوم.

تحدث مصدر مطلع في صناعة الدفاع الأميركية، بعد تأكيد رغبته بعدم الكشف عن اسمه، فوصف التيتانيوم بأنه «نقطة ضعف اساسية». قال المصدر: «ترانا نكثر الحديث عن قدرتنا على انتاج المزيد من الطائرات ونتحدث عن قدرتنا على انتاج الذخائر، وهي كلها أمور تعتمد على التيتانيوم، في حين سمحنا لأنفسنا بالبقاء معتمدين على التجهيز الخارجي من هذه المادة. 

لقد كانت روسيا في الماضي احد المجهزين الرئيسيين.»

يحث خبراء الأمن القومي والمدافعون عن أوكرانيا في الكونغرس صناع السياسة بشكل متزايد على التطلع شرقاً. وقد وجه قانون الانفاق الدفاعي للسنة الماضية وزارة الخارجية بتحري ما وصفه «امكانية استغلال مصادر التيتانيوم من أوكرانيا كبديل محتمل للمصادر الصينية والروسية».

يقول أحد الموظفين في الكونغرس، بعد ان طلب عدم الكشف عن هويته: «لدى أوكرانيا بالفعل مخزونات كبيرة من المعادن الارضية النادرة، واذا ما أحسنا لعب أوراقنا بالشكل الصحيح فقد يمكن جعلها بحق بديلاً جذاباً عن المصادر الروسية والصينية التي يتركز عليها الكثير من اعتمادنا حالياً».

يمضي عضو الكونغرس قائلاً: «مع تزايد الجدل في الغرب عموماً حول سبب اهتمامنا بمواصلة دعم أوكرانيا اعتقد ان هذه واحدة من الحجج التي سنبدأ بسماعها اكثر فأكثر».


غنائم الحرب

طرح الرئيس الروسي «فلاديمير بوتين» وحلفاؤه مجموعة كبيرة من المبررات لعملية الغزو المستمرة، لكن الاستيلاء على اسفنج التيتانيوم الأوكراني لم يكن من بين الاهداف المعلنة للكرملين، في حين انه سيكون من المغانم المهمة بالنسبة لموسكو. 

لدى روسيا مستويات واطئة نسبياً من احتياطيات معدن التيتانيوم، وفي العام 2021 كانت أوكرانيا هي المصدر الاساسي لواردات التيتانيوم، وفقاً للمسح الجيولوجي الأميركي.

تركزت معظم معارك الغزو في الانحاء الشرقية والجنوبية من أوكرانيا، وهي مناطق تضم مخزونات من الثروات المعدنية تصل قيمتها إلى مليارات الدولارات، وقد تمكنت القوات الروسية من الاستيلاء على موقعين على الأقل من مواقع خام التيتانيوم في أشهر الغزو الأولى.

كانت موسكو تسعى، حتى من قبل هجوم شباط، إلى تأمين موارد حيوية من التيتانيوم عبر شبكة من المسؤولين الفاسدين والاجهزة الاستخبارية التي تنشط في أوكرانيا.

في العام 2021 أجبر رجل الاعمال الثري «دمتري فرتاش»، المقيم حالياً في النمسا، على بيع حصته البالغة 49 بالمئة في مصنع زاباروجيا للتيتانيوم والمغنزيوم، وهو المصنع الوحيد في أوروبا الذي ينتج اسفنج التيتانيوم، بعد اتهامه ببيع التيتانيوم إلى روسيا لاستخدامه في اغراض عسكرية. وفي كانون الثاني 2022 باع فرتاش مصنع التيتانيوم في القرم إلى شركة تيتان الروسية.

يقول «أندرييه برودسكي»، المدير التنفيذي لشركة «فيلتا» الأوكرانية المنتجة للتيتانيوم، ان للمعدن اهمية حيوية بالغة في الهجمات الروسية المستمرة.

قال برودسكي: «الصواريخ التي تنطلق صوب أوكرانيا في كل يوم تقريباً تحتوي على كميات كبيرة جداً من التيتانيوم.» وأضاف أن موسكو قد تواجه عما قريب شحة جدية في الاسلحة الحديثة عالية الدقة ما لم تتمكن من تأمين امدادات جديدة من التيتانيوم.

كذلك فإن تأمين منفذ مضمون إلى التيتانيوم الأوكراني سوف يساعد الولايات المتحدة في صراعها الساخن مع الصين، التي يتوقع لها صناع السياسة ان تكون القوة المهيمنة على القرن الحادي والعشرين. يقول المصدر المطلع في مجال الصناعات الدفاعية الذي تحدث الينا إن التيتانيوم عنصر ضروري لصنع الاسلحة التي تساعد في ردع بكين. ويمضي فيقول: «أعتقد أن الصينيين يستوعبون جيداً وضع قاعدة الصناعات الدفاعية في الولايات المتحدة ويشخصون جوانب ضعفها، لسوء الحظ».

هذا الجهد الاستشاري أخذ يكتسب زخماً في واشنطن، كما يقول موظف الكونغرس الذي يشير إلى أنه الآن يرى لمحاتٍ من الفكرة تتردد في حوارات المشرعين. يقول: «من المؤكد أن هذه مجرد فرجة صغيرة، ومن المؤكد أنها لا تحظى بالاهتمام ذاته الذي تحظى به احتياجات أوكرانيا العسكرية الملحة، بيد أنها شيء نعتزم التركيز عليه».

يقول مصدرنا في الصناعات الدفاعية إن المسألة الان قد تتطلب تدخلاً مباشراً من البيت الابيض لتسهيل الحركة، فلا شيء مثل الازمات يدفع إلى تركيز الذهن، وهو يعتقد أن هذه هي الطريقة التي تحب الولايات المتحدة العمل بها.

يقول: «في بعض الاحيان تستغرق الحوارات التي تدور على مستويات ادنى وقتاً غير يسير قبل ان تبلغ المسامع في المستويات الأعلى، وأعتقد أن هذا هو ما يحدث الآن .. باعتقادي أن المعنيين بأمور مثل قانون الانتاج الدفاعي يدركون أن عليهم التفكير في ما ينبغي عمله بخصوص التيتانيوم، ولا يخفى عليهم أنهم بحاجة لدراسة أمور مثل المصدر الأوكراني. لا احسب انهم قد تلقوا اشارات طلب بعد من المستويات العليا مثل وزارة الدفاع أو وزارة الداخلية أو البيت الابيض.»


اسعاف أوكرانيا

في خضم سعيها للانضمام إلى المجتمع الأوروبي الاطلسي تواجه أوكرانيا مهمة ضخمة تتمثل في اعادة بناء البلد واجتذاب المستثمرين الغربيين. فتكاليف اعادة الاعمار يمكن ان تصل تقديرياً إلى ترليون دولار، وهذا الرقم ذكره الرئيس «فلوديمير زيلنسكي» نفسه.

تأمل كييف ان تصبح صناعة التيتايوم بنداً اساسياً في اجتذاب التمويل الخارجي وفي ركابه الحماية السياسية.

يقول «أوليغ يوستنكو»، الذي يعمل مستشاراً اقتصادياً لزيلنسكي: «لدينا اليوم التيتانيوم والليثيوم، والطلب عليهما شديد وسوف يزداد شدة في المستقبل. ما أعلمه هو أن معظم هذه المخزونات لم يجر استغلالها حتى الان، وهذا يعني أن فرص العمل في هذا القطاع عظيمة حقاً».

يمضي يوستنكو مستطرداً: «هذه مسألة مهمة من منظور زيادة الاستقرار في النظام العالمي والتجهيز العالمي لهذه المنتجات. نحن نعي اهمية دورنا، ليس فقط في الاتحاد الأوروبي بل ايضاً من ناحية التجهيز العالمي، وهو دور مهم حقاً باعتقادي وأوكرانيا قادرة على القيام به. لكني اعود فأقول اننا بحاجة للتأكد من ذلك في ظروف ما بعد الحرب.»

يقول «ستيفن بلانك»، وهو زميل اقدم في معهد بحوث السياسة الخارجية واستاذ سابق في الدراسات الروسية بكلية الحرب التابعة للجيش الأميركي، إن أوكرانيا تستطيع المباشرة بشحن كميات كبيرة من التيتانيوم إلى الغرب في ظرف اشهر من انتهاء الحرب.

يضيف بلانك إن على الأوكرانيين إعادة بناء بلدهم من القاعدة صعوداً، وهذه برأيه فرصة عظيمة للمستثمرين. اطلاق كل هذه القدرات والامكانيات من مكامنها سوف يتطلب دعم الحكومتين في كييف وواشنطن.

صناعة التيتانيوم التي عطلتها الحرب وعاث فيها الفساد خراباً سنيناً تحتاج بشدة إلى الاستثمار. يقول برودسكي إن شركة «فيلتا» من بين شركات عديدة تحاول العثور على شركاء ستراتيجيين من اجل بناء مصانع جديدة في أوكرانيا وخارجها.

تعمل شركة «فيلتا» منذ الآن في منشأة جديدة بجمهورية التشيك على اثبات عمليتها الجديدة «فيلتا تي» التي تقول إنها يمكن عن طريقها انتاج مسحوق التيتانيوم المعدني بتكاليف أوطأ مع تقليل الاثار البيئية إلى حد كبير.

يقول برودسكي إن الاهتمام كبير بين المستثمرين الاجانب، وإن الشركة تأمل أن يكون المصنع التشيكي مكتملاً وجاهزاً للعمل بحلول الخريف وسوف يثبت أن مسحوق «فيلتا» يمكن استخدامه لكبس وضرب وطبع قطع ثلاثية الابعاد تستخدم كمكونات تحتاج اليها الصناعة الجوفضائية.

يقول برودسكي إن بالامكان ايضاً بناء منشآت مماثلة في الولايات المتحدة، ويضيف: «من الواضح للجميع الآن أن على الولايات المتحدة تأمين احتياجاتها من التيتانيوم وانها بحاجة ايضاً لامتلاك شيء من هذا القبيل داخل اراضيها. بل أن من الممكن ان تشترك الدولتان، أوكرانيا والولايات المتحدة، ويكون دور أوكرانيا توفير التكنولوجيا.»

يقول موظف الكونغرس: «الأمر يحتاج حتماً إلى بعض الاستثمار وشيء من الاهتمام الجدي من جانبنا، ولكنه على المدى الطويل سيستحق كل ما يبذل فيه اذا ما نجحنا في انشاء خط تجهيز دائم من دولة صديقة مثل أوكرانيا.» 


عن مجلة «نيوزويك»