ملامح الحوار الفكري في العصر العباسي

منصة 2023/02/27
...

 كامل داود              


امتدت الدولة العباسية على مساحة شاسعة من الأرض، تضم بين جناحيها أمماً وأوطاناً كثيرة، تعيش فيها شعوب مختلفة، لها تاريخها الطويل وحضارتها المتعمقة الخاصة، لكن امتزاج هذه الشعوب بثقافاتها المتنوعة في بوتقة الدولة العباسية، أدى الى تمثل تلك الثقافات، وكان أهمها الفارسية والهندية والاغريقية، وبهذا الامتزاج ازدهرت الحركة العلمية والادبية، وتعمق هذا التثاقف بين العرب وبين الأمم المغلوبة، وعزّزت ذلك ما هيأت له الكتب المترجمة، الأمر الذي أفاض الى سمو الحياة العقليَّة سمواً كبيراً، وأشاع المناظرات والمحاورات بالأفكار، خاصة بعد اتقان استخدام الورق وصناعة الكتب، التي اصبحت المادة الاساسية في الثقافة والتعلم، ومن نتائج ذلك انخفاض كفة التعليم الشفاهي المباشر  في كل ضروب المعرفة.

إنَّ هذا التنوع الثقافي هيّأ المناخ للتحاور والجدل، وكانت المناظرات تشغل الناس على اختلاف مشاربهم وطبقاتهم، تعقد هذه المناظرات في المساجد على هيئة الحلقات الدراسية، ولا بدَّ هنا من الاشارة الى ان مستوى ثقافة الحوار هو امتداد للثقافة السائدة، واذا رجعنا الى المصادر المعجميَّة فإننا نجد في الموروث الحضاري العربي، عددا من المفاهيم التي تشترك مع الحوار بكثير من مقوماته، نجدها تتداخل معه على مستوى الدلالة، مثل الجدل والحجاج والمناظرة، وان اختلفت في بعض التفاصيل.

 في الأعم الأغلب يوجد الحوار أينما وجد الاختلاف، وقد يؤدي الحوار الى تقليص شقة الخلاف فضلا عن ان الحوار يوسع المدارك ويفتح آفاقا جديدة في الوعي، اما المناظرة الاسلامية فقد استعانت بالجدل اليوناني، ولم تكن في يد المسلمين العرب اداة للاشتغال بالمنازعة المقصودة لذاتها وانما كانت وسيلة من وسائل تنمية المعرفة الصحيحة وممارسة العقل السليم، وجعلوا من شروطها؛ ان يكون المتناظران متقاربين بالعلم والمكانة وان يمنح المتناظر خصمه وقتا كافيا، وان يتجنب الاساءة بالقول والفعل، وان يجتنب المعاندين ويكون الهدف هو الوصول الى الحق .

 لكن هذه الاشتراطات المثالية من الصعب تحقيقها، ولا نجدها إلا لماما بين النخب وفي ظروف محددة بمحددات كثيرة، خاصة بعد التحولات الفكرية التي شهدها العصر، من هذه التحولات ما كان خارج المأثور الديني الشائع، والذهاب الى رؤى متأثرة بالواقع الفكري الجديد، وقد التفت الى ذلك الكاتب عبد الرحمن بدوي اذ يقول: ((ولقد كانت الروح العربية في القرون الثاني والثالث والرابع للهجرة قد استنفدت كل قواها وإمكانيتها الدينية الخصبة التي كانت لها من قبل ...)) . 

إذن نحن أمام مجتمع متنوع الثقافات، يعتمد نجاح الحوار فيه على كفاءة التعامل مع الآخر المختلف، نقصد بالكفاءة هذه، مجموعة من قدرات نفسية  تتعلق بالتواصل وإعادة تشكيل فهم العالم، والقدرة على الاستماع والمرونة المعرفية وحسن التقبل.

وكان المعتزلة آنئذٍ قد نبغوا في البصرة في اواخر العصر الاموي، وملؤوا مساجدها بجدالهم وطروحاتهم الفكرية، واستطاعوا ان يقنعوا الكثير من الشباب للانخراط في عقيدتهم، بل استمالوا حتى الخلفاء، وخرج منهم الكثير من الشعراء الذين نظموا قصائد تعرض افكارهم وتدافع عن عقيدتهم. (وظل الباحثون في فلسفة المعتزلة فترة طويلة يعتمدون في دراساتهم على اقوال المعادين، الى ان كشفت بعثة وزارة المعارف المصرية 1951ـ 1952 الى اليمن مجموعة نادرة من عيون هذا التراث) .

ومن المعتزلة، ظهر الكثير من المتكلمين الذين عنوا بدراسة ما يقودهم الى براعة القول ووضوح الرؤية، وكانت جل صناعتهم تقوم على البلاغة والمنطق والاقناع واتقان حرفة المناظرة والحِجاج، حتى وصل نشاطهم الى مجالس الخلفاء، التي تحولت الى ندوات علمية وفلسفية للمناظرة، مع حرية التعبير، يلتقي فيها اصحاب الملل والنحل والاهواء، إذ لم يكن بين العامة وبين العلوم حجاب. 

وقد كانت مجالس المأمون العلمية صورة مصغرة للثراء والتنوع، ومن ذلك ما يذكره الخطيب البغدادي؛ ان المأمون قال يوما لحاجبه: انظر من بالباب من اصحاب علم الكلام، فخرج وعاد اليه فقال: بالباب ابو هذيل العلاف وهو معتزلي، وعبد الله بن اباض وهو خارجي، وهشام بن الكلبي وهو رافضي  .

 إنَّ ثمرة تلك المناظرات وذلك الحوار هو؛ تطّور النثر العلمي والفلسفي، وازدهار العقائد وصياغة المصطلحات واجتراح المفاهيم الجديدة المناسبة للمناظرات، والحوار والارتفاع في ذخائر الفكر الفلسفي والقياس المنطقي والاستدلالي، والاعتناء بأصول براعة القول في المناظرات، لا سيما التي تقام ويجتمع حولها الناس، فإنها تتطلب من المناظر أن يُلائم بين مفرداته ومستوى المتلقي، ويحرص على الوضوح ويبتعد عن الألفاظ الخشنة، يستخدم الالفاظ المحددة التي تؤدي الى المعنى وبالنتيجة يحصد الاقناع  .

وقد برزَ المعتزلة في ذلك حتى كانوا أنشط الفرق الفكرية في التناظر والجدل والرقي الفكري، وزادهم حضورا استقطاب السلطة العباسية لهم، منذ سنين التأسيس الاولى، فكان عمرو بن عبيد صديقا للمنصور وفي عهده رفع المعتزلة رؤوسهم وان شهدت بعض الصدود في زمن عدد من الخلفاء كما حدث في عهد الرشيد، إذْ امر بحبس عدد منهم ونهى عن المجادلة والقول بخلق القرآن  . 

بينما كانت فترة حكم المأمون والمعتصم والواثق هي العصر الذهبي لنشاط المعتزلة. ولا بدَّ من الاشارة الى ان مقولة خلق القرآن تقع بين مستوين من علاقة الإلهي بالبشري في النص المنزل، فقد ارتبطت هذه المقولة مع مقولة القضاء والقدر واثبات مسؤولية الانسان وحريته في الوجود اولا، وتاريخانية النص ثانيا ورفض سياسة الجور بمبررات شرعية ثالثا، لذلك نجد أن علم الكلام قد عاش محناً كثيرة بسبب تلك المقولات التي تصنّف على أنها موجهة ضد السلطة.

إنَّ الجو الفكري لم يكن خاليا للمعتزلة، بل كان الصراع محتدما، وكان من نتائجه ظهور الكثير من الفرق الدينية الاسلامية، بل ان فرقة المعتزلة ذاتها، لم تظهر الا من خلال حوار فكري في حلقة الحسن البصري، أثاره واصل بن عطاء وبعده اعتزل تلك الحلقة، ومن هذا الاعتزال جاء اسم المعتزلة كما يرد في كتب التواريخ، اذ كان الحوار الفلسفي والديني عند المسلمين في العصور الوسطى، اقرب الى المناظرات الفلسفية والدينية  . 

ومن نتائجه انبثاق المذاهب والفرق، والتي بدورها ادامت استمرار الحوار والمناظرات لغرض الاستحواذ على المشهد الفكري والمذهبي، وتشير المصادر الى جذور ذلك الصراع، إذ إنّ المناظرات قد احتدمت بين الإماميَّة والمعتزلة من عصر الإمام الباقر، وقد عرف عدد من متكلمي الإماميَّة، الذين دخلوا في مناظرات وحوار مع المعتزلة، اذ يقول أحمد أمين متحدثا عن اهم المتكلمين الذين قادوا تلك المناظرات، وهو هشام بن الحكم (ت 179هـ)  (فيظهر أنّه أكبر شخصيّة شيعيّة في علم الكلام... جدلاً، قويّ الحجّة، ناظر المعتزلة وناظروه، ونقلت له في كتب الأدب مناظرات كثيرة متفرّقة تدلّ على حضور بديهته وقوة حجّته قد ناظر أبا الهذيل العلاّف المعتزلي)  .

وكذلك مناظرات محمد بن نعمان  ، بل ان بعض مشايخ المعتزلة قد تعلموا من متكلمي الاماميّة، يقول الدكتور علي سامي النشّار: ان النظام ( ت221هـ) والذي كان أكبر شخصية معتزلية في عصره وفيلسوفهم، وهو  شيخ الجاحظ، قد أخذ من هشام بن الحكم وكان تلميذا عنده  . وفي الملل والنحل ما يشير الى ذلك عند الحديث عن هشام بن الحكم (ت 179 هـ) فهو من متكلمي الشيعة وجرت بينه وبين أبي هذيل العلاف مناظرات في علم الكلام  . 

وفي المضمار نفسه، ما ذكره المسعودي بشأن مناظرة جرت بين هشام وابي هذيل يقول المسعودي إنّ أبا هذيل انقطع ولم يرد بجواب  .

إلّا أن الحوار والمناظرات لم تقتصر على الإماميَّة، بل ان الساحة الفكرية شهدت نشاط متكلمي فرق أخرى، منها فرقة الخوارج، فمن متكلميهم اليمان بن رباب، وهو من جلة الخوارج ورؤسائهم ...... له كتاب على المعتزلة في القدر، وعبد الله بن يزيد الاباضي من أكابر الخوارج ومتكلميهم، وله من الكتب كتاب التوحيد، كتاب على المعتزلة، كتاب الاستطاعة  .

وناظر المعتزلة من الزهاد، الحارث بن أسد المحاسبي البغدادي (ت 243هـ) وهو من المتكلمين على العبادة والزهد في الدنيا والمواعظ وكان فقيها متكلما مقدما كتب الحديث وعرف مذاهب النساك، وله من الكتب كتاب التفكر والاعتبار ........ والرد على المعتزلة  .

وشاعت وقتئذٍ المناظرات المكتوبة، اي ان المفكر او المتكلم، يؤلف الكتاب ثم تؤلف الردود عليه، وهذا النشاط الثقافي المكتوب، هو حصيلة حوارات ومناظرات شفاهية قد تكون استغرقت الكثير من الوقت والجهد الذهني حتى تصل الى مستوى من النضج والكمال، وقد تتعدد الردود أو يُرَد على الردود ذاتها.

وقد أدرج أصحاب الفهارس عددا من الكتب التي أُلّفت في الحقل المعرفي العميق، لم يصلنا سالما منها سوى كتاب “الانتصار” وهو من الكتب القليلة التي كُتب لها النجاة من الإحراق والتلف، وُجدَت نسخة منه محفوظة في دار الكتب المصريَّة وطُبع في القاهرة عام 1925، حققه وقدم له المستشرق السويدي صموئيل نيبرج  ، مؤلفه هو ابو الحسين الخيَّاط (ت 321هـ) شيخ معتزلة بغداد، كتب كتابه هذا للرد على ابي الحسن احمد بن يحيى بن اسحق الراوندي المعروف باسم “ابن الراوندي” (ت 250هـ او 298هـ).

 ان ابن الراوندي هذا انتقد المعتزلة انتقادا لاذعا، بكتابه “فضيحة المعتزلة” ولكن هذا الكتاب مفقود ولم يصلنا، ولكن أدرج الكثير منه في كتاب الانتصار، انتصر فيه للأماميَّة بردٍّ قاسٍ على كتاب ألّفه “الجاحظ” (ت 255هـ) أسماه “فضيلة المعتزلة” وهو مفقود ايضا، ويرجح تأليف الجاحظ لهذا الكتاب في فترة حكم المتوكل العباسي (232هـ ـ 248هـ/ 846 ـ 862م) بعد أن قلب للمعتزلة ظهر المجن، وقد كتبه الجاحظ ردّاً على الإماميَّة بشكل عام، وما كتبه “هشام بن الحكم” في الرد على المعتزلة  .

لذا جاء اختيارنا لكتاب الانتصار كأنموذج للحوار والمناظرة بين أهم فرقتين فكريتين في العصر العباسي، هذا من جانب، ومن الجانب الآخر يقودنا البحث الى المضي مع الأنساق المعرفيّة التي سادت في العصر الذهبي للحضارة العربية الاسلامية، من خلال اصطحاب فرقة المعتزلة، واحد اهم رجالها، وهو الجاحظ، فقد انتقد في كتابه (فضيلة المعتزلة) المخالفين، ومن المؤكد ان مناظرات متكلمي الامامية مع شيوخ المعتزلة كانت جزءا كبيرا من مادة كتاب الجاحظ، وقد يكون اختلاف المواقف السياسية بين المتناظرين، من حيث التأييد او المعارضة لحكم بني العباس، معيارا آخر لحجيَّة الآراء، والمعتزلة من المثقفين المسلمين الأوائل الذين سخّروا خطابهم العقلاني الديني لخدمة الدولة، وقـد كان الجاحـظ وهـو (المعتزلـي البـارز) قـد دعـم الخليفـة العبَّاسـي المأمـون، وصنّـف له كتبـا عـدة لدعـم سـلطته وترسـيخ فكـرة (التفويـض الإلهـي) لحكـم الخلافــة العبَّاســية، وعبّــر الجاحــظ عــن ازدراء عميــق وشــديد لطبقــة العامــة، وكان أول مــن أكــد ضــرورة التمايـز بيـن طبقـة النخبة (الخاصـة) وطبقـة العـوام، وعارض الجاحظ موضوع الخروج على السلطان، ونظر الى ذلك الخروج بأنه امر غير ممكن، ومن يقوم بذلك لن يلقى إلا الإخفـاق، ولا بدّ من الرضوخ والتسليم وقبول السلطة القائمة، وهذا بلا ريب أهم مـا قدمه الجاحظ فكرياً للسلطة العباسية التي اعتمدت عقلا سياسيا مختلفا عما سبقها من الدول، فقد استحدثت شرعيتها من سرديات الامامة وهيبة النسب في الاستحقاق على وفق الأنموذج الفارسي .. .

لقـد انتبـه المستشـرق الفرنسـي (شـارل بيـلّا) إلـى الأهميـة الكبـرى التـي شـكلها النثـر فـي خطـاب المعتزلـة العقائـديَّ والسياسـي، وإلـى تلـك التحـولات الكبـرى التـي جـرت فـي وظائـف الأدب التأثيريّــة لــدى المتلقيــن، وإلـى خطـاب علـى درجـة عاليـة مـن التعقيـد والتشـابك مـع السياسـي والثقافـي ومــع طبيعــة التكوينــات الحضريــة العبّاســيّة الصاعــدة آنــذاك، وهــذا مــا يقودنــا إلــى تمثيــلات السـرد السياسـيّ عنـد الجاحـظ المعتزلـي الذي سوّق الخلافة العباسية بثلاث رسائل هي “استحقاق الإمامة” و”العباسية” و”مناقب بني العباس” وكان خطاب الجاحظ يهدف الى الاقناع ويبحث عن المنفعة، يستدعي كل الاساليب التي تضلل المتلقي وتستدرج الخصم لتفريغ كلامه من الحجة والمنطق، ببلاغة هجوميّة شرسة لا يتورّع عن تحريف قول الخصوم، وكان استقطاب المأمون للمعتزلة لكي يفرغ سلطة النقل وأهل الحديث وفقهاء الحنابلة الذين استقطبوا العامة وسخروهم للوقوف مع أخيه الأمين في معركة الخلافة، هكذا جاء استقطاب الجاحظ لأنه من اهم النخب الثقافية في عصره وكتاباته تعضد سلطة بني العباس  .  إنّ هذه المساحة من التسامح، تضيق بعد وفاة المأمون وفي عهد المعتصم والواثق، وتتحول الى قتل وتنكيل ومحنة، ويمكن القول بفشل التجربة التنويرية وتحول المحدثون الى أبطال بنظر العامة حتى الانقلاب المتوكلي  .

فالسلطة السياسيّة تستفيد من كل المظاهر التي تساعدها على أن ترسخ في الاذهان انها راعية خطاب الحق  .

لذا تدنت مكانة المعتزلة كثيرا، بعد وفاة الواثق واستخلاف المتوكل، الذي لم ينظر اليهم بعين الرضا، وتشجع خصومهم من أهل الحديث في الطعن بطروحاتهم، فلجؤوا الى الذب عن معتقداتهم ومتبنايتهم الفكرية، فكان تأليف الجاحظ لكتابه (فضيلة المعتزلة) ولم يقصد به الثناء على فرقته وتبيان فضائلها، بل الطعن بأفكار خصومه من الإمامية وأهل الحديث، الا ان الطعن في الفرقة الإمامية، أخذ الحصة الكبرى من كتاب الجاحظ، ويبدو انه انتشر بشكل واسع بين النخب وعامة الناس مما هيّأ الردود عليه، وكان منها كتاب ابن الراوندي  (فضيحة المعتزلة) وان مؤلفه كان معتزليا قبل ان يتحول الى الإمامية ثم يستقر على الإلحاد، وان “كتاب الانتصار” جاء للرد عليه  .

لقد أحدث كتاب فضيحة المعتزلة، ضجة كبيرة في الأوساط الفكرية والشعبية، وبقي صداه الى زمن طويل، واستغله خصوم المعتزلة ضدهم، واخذ منه الكثير من المؤلفين من جميع المذاهب للطعن بالفكر الاعتزالي  .

وكان كتاب (فضيحة المعتزلة) تحليل نقدي لمذهب المعتزلة من وجهة نظر امامية، وهو جواب رد كتاب الجاحظ (فضيلة المعتزلة)، وان كتاب الخياط  (الانتصار) هو رد على كتاب ابن الراوندي، ويكاد يحتوي النص الكامل له  .

يبدو أن ابن الراوندي ما زال مؤمنا عندما كتب “فضيحة المعتزلة” ولكنه أشهر خصومته للمعتزلة، وان الخياط قد شوّه صورته عندما استخدم كتبه الإلحاديَّة في الرد عليه  .

إنَّ ملازمة الجد والمناظرة للتحصيل العلمي، وظهور علم الكلام، قد وسع دائرة الحوار، ولكن طبيعة الحوار املته عوامل حضارية وثقافية وسياسية، فرضت  الاقصاء واستبعاد الطرف الآخر والاستفزاز والتشويه وفرض الرأي، هذا الذي كان يسود في المنظومات المعرفيَّة الحيَّة والفاعلة، حيث الصراع على السلطة بمختلف تمثلاتها، سلطة المعاني وسلطة العقيدة والحاكمية والرغبة في الظفر الايديولوجي.

فالجماعات الفكريَّة تسعى الى تحقيق مجموعة أهداف منها

 1. الابقاء على نظمها المعرفيَّة بحالة استمرارية

 2. استقطاب واستمالة المريدين والمؤيدين الجدد

 3. التصدي للخصوم والمعارضين  .

وبقدر تعلق الامر بالخياط، فيشهد بواسع علمه كتابه الانتصار، فقد عرض فيه بشكل مفصل؛ آراء المعتزلة وطروحاتهم بشأن القضايا الفكرية التي كانت ترسم حدود الاشكاليات الكبرى والاختلافات بين الفرق، التي من السهولة بمكان تلمسها بما يثير الإعجاب، بين ثنايا ردوده ونقضه ما طرحه ابن الراوندي في كتابه “فضيحة المعتزلة”، لكن “الخياط” لم يستطع الانفكاك من براثن الإرث الثقافي، المتمثل بتسيّد ثقافة اقصاء الآخر المختلف، بل يحرّض الحكومة والمتطرفين على تصفيته، فهو يبدأ من مقدمة كتاب الانتصار بالقول بعد البسملة: (وقد قرأت اسعدك الله بطاعته لإتباع مرضاته كتاب الماجن السفيه وفهمت ما ذكره....) . 

هكذا يكيل الخياط، وهو المعتزلي المتنور، التهم ضد ابن الراوندي، يكشفه أمام السلطات بأخطر التهم، فهو يستعرض كتبه مركزاً على ما كتبه من كتب إلحاديَّة، يدرجه في قائمة الإلحاد والجرأة في الكذب والبهتان، وبعدها التهاون في ركوب الإثم والعدوان، يطلق افادته للسلطات، بأن ابن الراوندي قد ألّف في الإلحاد وإبطال التوحيد وجحد الرسالة وشتم النبيين.......، وهذه دعوة واضحة للتنكيل، وتحريض مكشوف ضد الخصم الفكري، بل حتى يمكن أن نعدها دعوة للتصفية الجسدية، وان العنوان الفرعي لكتاب الانتصار، وحده يكفي ان يكون لائحة اتهام تقود ابن الراوندي الى “تنّور” صاحب الزندقة.

إنَّ ثقافة الحوار هي ثقافة اجتماعية تواصلية، وهي عرض لجوهر حضاري، تبلغ نضجها عند اكتمال البناء الفكري المتحرر للافراد، والأجدر أن تتبناها النخب الثقافية في المجتمع، فهي الأكثر إدراكا لأهمية الحوار ودوره في تكامل الرصيد المعرفي، ولكن يبدو ان الانساق المعرفية لا تستطيع الافلات من قيود الموروث، وان جذورها تمتدُّ عميقا في دهاليز البداوة، ومن الصعب الالتزام بأصول الحوار في تحرير محل النزاع والاحتكام الى المعايير المناسبة.