حسن العاني
شهر نيسان 2003 بعجائبه وغرائبه ومفارقاته ينصرم، وتمضي بعده الشهور حبلى بالأحداث، وثمة قناعة في الشارع تترسّخ، أنّ الاميركان يرسمون مشهداً جديداً للعراق يصعب فهمه، صار بمقدور المواطن مثلاً او الإعلامي أن يذكر اسم رئيس الجمهورية من دون (حفظه الله ورعاه) ومجرداً من مفردة (فخامة)، وتلك أولى سعاداته المبكرة بأجواء الديمقراطية والحياة الجديدة التي تفتحت أبوابها على مصاريعها، ولكن لم يسعده أبداً ما حدث أمام مستشفى اليرموك (ومئات الأحداث المشابهة لذلك الحدث ستأتي لاحقاً)، فالذين تنتصب قاماتهم فوق الدبابة العملاقة، والذين يمثلون القوة الأعظم في العالم، ويفاخرون بتمثال الحريّة وشعلة الحضارة، والذين يرفعون لافتة باللغة العربيّة، وبحروف كبيرة، تدعو اصحاب المركبات ممن يسيرون خلفهم ان لا يجتازوهم، وان يكونوا على مبعدة (100 متر)، تتوقف دباباتهم فجأة وينزل احد جنودها مسرعاً، لأنّ سائق سيارة خصوصي (كورونا موديل 1981) لم يلتزم بالمسافة المقررة... توقفت المركبات جميعها بالطبع... تقدم الجندي تسبقه رشاشته، ورشاشات رفاقه كلها مصوّبة نحو سائق الكورونا.. طلب منه بالإشارة مغادرة المركبة ووضع يديه خلف رأسه... السائق رجل في السبعين او قريباً من ذلك اذا لم يخطئني التقدير، والى جانبه سيدة لا تقل عمراً، وفي المقاعد الخلفية شابتان.. العسكري فتّش المركبة تفتيشاً دقيقاً واطمأن الى سلامتها وسلامة سائقها وركابها من أية دوافع ارهابية، وأية اسلحة او متفجرات، ولم يستمع الى ايضاح العجوز الذي كان يتحدث الانجليزية بطلاقة، بأن المسافة بينهما اكثر من (130) متراً... ذلك الأشيب المسكين كان يعتقد ان من حقه تقدير المسافة على وفق المنطق والمقبول والمعقول، وقد فاته ان تقدير كل شيء في تلك الايام، المسافة والحياة والحق والباطل والموت والبقاء، هو من اختصاص الرجل الذي حررنا من لعنة الدكتاتور واسقط الصنم في ساحة الفردوس.. وأن ذلك العسكري المزوّد بأحدث الاسلحة وأكثرها رعباً، كان لا يسمع الا صوته ورأيه هو .. هو فقط .. ولذلك أطلق النار على عجلات الكورونا الاربع بحقد واضح، وبيده رسم لرفاقه متباهياً علامة النصر... أما عند الشارع الممتد بين (جسر السنك ووزارة الخارجية)، وهو من أحب شوارع بغداد الى روحي، كل شيء فيه جميل.. ارصفته، تعبيده، الابنية المحيطة به و.. وجزرته الوسطية بخضرتها واشجارها، ثم بدبابته الفخمة يستعرض جندي آخر حضارة بلاده وهو يعبر الشارع من اليمين الى اليسار صعوداً فوق الجزرة الوسطية.. وكان الزحام على أشده في شارع المغرب، لا.. لا.. هو ليس حادثاً مرورياً، بل هي آليّة اميركية ضخمة تقطع الشارع من دون اي مبرر او سبب، و (75) دقيقة ونحن لا ندري من الذي كان يتولى تعذيبنا.. حضارة المحتل أم شمس أيلول، وما خفي من لاحق ايامهم كان أعظم!!