التسول بطرقٍ إنسانيَّة

ريبورتاج 2023/03/01
...

   محمد عجيل 

  تصوير : خضير العتابي

مرض حيدر غفار البالغ من العمر 25 عاماً، والمنتمي إلى إحدى الأسر الفقيرة بالفشل الكلوي المفاجئ وتطلب ذلك تداخل جراحي، وتبديل كلية في إحدى دول الجوار ولكن كان لا بد أولاً من توفير مبلغ ثلاثين مليون دينار، لذا هب أصدقاؤه ومعارفه يجمعون من هذا وذاك واضطر بعضهم إلى الوقوف عند المطبات الصناعية في الشوارع، حاملين صورته بين طفليه مناشدين المارة بالتبرع لإنقاذ حياة حيدر.

إن هذا المشهد يكاد يتكرر أسبوعياً إن لم نقل يومياً في مناطق جنوب العراق، وإذا كان من وجهة نظر البعض إنسانياً ويعبر عن مدى الترابط الاجتماعي بين عامة الناس، فإن الأمر يختلف عند الغالبية الذين يرون فيه نوعاً من التسول لكن بطريقة إنسانية، وما هو إلا تعبير عن مدى التدهور الذي تشهده الخدمات الصحية وضعف الأداء والفقر المدقع الذي وصلت إليه الأسر، في مختلف المناطق وخاصة في الجنوب.

يقول حمزة راتب وهو أحد أفراد الفرق الجوالة، لغرض جمع التبرعات والمساعدات المالية للمرضى في بابل: "لقد تعرضنا إلى سيل من الاتهامات، فبعضهم يصفنا بالمتسولين، والبعض الآخر بالمحتالين، بينما يقدم لنا آخرون المساعدة المطلوبة، ويتفهمون أننا مضطرون تحت وطأة الظروف المالية لأن نسلك هذا الطريق رغم ما نتعرض إليه، لأننا ندرك بأننا نسهم في إحياء نفس، ومن أحياها كأنما أحيا الناس جميعاً" .

وأضاف أن العراقيين معروفون بكرمهم ولا يقفون مكتوفي الأيدي، حينما يجدون أحدهم بحاجة إلى المساعدة لغرض العلاج سواء داخل البلاد او خارجها، لكنهم ناقمون على الأوضاع ولا يرغبون بمواصلة هذه الطريقة في جمع الأموال، لأنهم يعتقدون أن ذلك من واجب الحكومة وإن ما وصلنا إليه من تدهور سببه الفساد المالي المستشري في القطاعات الخدمية .

ويرى زميله عبد الزهرة خيري أن الواجب الإنساني يحتم على الجميع الوقوف مع المرضى الذين لا يملكون قوت يومهم، وأن المشاركة في جمع التبرعات ما هي إلا دليل على التماسك الاجتماعي وإن كان البعض يسمي ذلك تسولاً، فإن المهم هو إنقاذ حياة إنسان وهناك من يتفهم هذا الأمر، في حين يرفضه آخرون و ينتقدونه، معتقدين أن هذا الأمر سيشجع الجهات ذات العلاقة على التقصير بأداء عملها أكثر وعدم تقديم الخدمات الصحية الأفضل للجميع. 

وعن دور الجمعيات الخيرية في رفد تلك الجهود بالأموال قال خيري: "إنها تقدم بعض المبالغ وليس كلها، أي حينما يصل المبلغ إلى خمس وعشرين مليون دينار، فإنها تسهم في تقديم خمسة ملايين دينار فقط، متذرعة بأن أبوابها مفتوحة للكثير من المرضى، ولا بد من التقسيط في تلك المبالغ، كما أن الجمعيات نفسها تتلقى المساعدات في أحيان كثيرة" .

ويقول مدير جمعية الإحسان الخيرية ماجد شمخي: "إن الحالات المرضية كثيرة وإن ما يقدم للجمعيات الخيرية من الميسورين، والمؤسسات لا يتناسب وذلك العدد ولهذا نضطر في الكثير من الأحيان إلى فتح جمعيات فرعية، في مناطق ريفية تأخذ على عاتقها ما يمكن تقديمه للمرضى من الأطفال وكبار السن، كما أن الخدمة لا تقف عند هذه الاغراض بل تتعدى ذلك إلى  المساهمة ببناء المستشفيات والمراكز الصحية".

ويلفت الناشط المدني حسين علي جاسم إلى أن دور الجمعيات الخيرية في معالجة المرضى، يقتصر على المعارف ومن له علاقة بأعضاء الجمعية وأن الكثير من المرضى لا يجدون رعاية لا من الحكومة ولا من تلك الجمعيات، حتى يضطر البعض إلى الوقوف على ناصية الشارع، مستجدياً من هذا وذاك كي يجمع مبلغاً للعلاج 

وحدث ذلك في غالبية مناطق الفرات الأوسط والجنوب، لأسباب تتعلق بتفشي الأمراض وانعدام الخدمات الصحية والفقر الذي تعيشه الأسر العراقية". 


محاسبة المقصرين 

وطالب حسين علي جاسم بمحاسبة المقصرين في القطاع الصحي من كبار المسؤولين الذين يخفون معاناة الناس ويتبجحون في الادعاءات بتقديم الرعاية الصحية، وأكد أن الكثير من المستشفيات لا تملك الأدوية التي تخفف من بعض الأمراض أو حتى في أحيان كثيرة تفتقر إلى أدوية خافضة للحرارة، فكيف بها أن تقوم بعمليات كبرى يتطلب بعضها استئصال ورم او زراعة كلى، ما يدفع الناس إلى جمع الأموال بطرق مختلفة ومنها التسول لغرض الحصول على المبالغ الكافية للعلاج، موضحاً أن هذه الظاهرة انتقدها البعض وعدها استجداء إلا أنها في حقيقتها صورة من صور التعاون لغرض تجاوز الظروف العصيبة التي قد يمر بها أفراد المجتمع، وهي ذاتها التي حدثت في توزيع السلات الغذائية أثناء جائحة كورونا ما يدل على أصالة الإنسان العراقي وعدم رضوخه للظروف، التي أرادت النيل من تماسكه 

الاجتماعي.

ويشجع جاسم الحماسة التي يحملها الكثير من الشباب، في تشكيل فرق جوالة لجمع التبرعات، شريطة ألا تخرج من إطارها الإنساني وتقع بيد غير أمينة تتصرف بها لمصالح شخصية ".

ويعتقد أستاذ علم الاجتماع في جامعة بابل الدكتور احمد الحسناوي، أن ما يحدث إحدى وسائل انتقاد الحكومة بصورة غير مباشرة، لأن الفرد حينما يضطر، تحت وطأة الظروف أن يجمع الأموال من أجل تحقيق هدف ما في حياته، فإنه بذلك يؤشر إلى وجود تقصير حكومي تجاه جانب معين وفعلاً هذا ما يحدث أي حينما يقف مجموعة فتية في الشارع حاملين لافتة، فيها صورة مريض ومناشدة فإنهم بذلك يقولون إننا مضطرون أن نعمل هكذا، لأننا لم نجد الخدمة الكافية في المستشفيات، مبيناً أن على المسؤول أن يدرك أن هناك تقصيراً واضحاً وفعلياً سواء كان متعمداً ام لا تجاه الوضع الصحي، والدليل هو أنك حينما تتوجه للمستشفيات الأهلية تجد كل الخدمات، وحينما تتوجه لنظيرتها الحكومية لا تجد سوى10بالمئة من تلك التي تقدم في الأهلية، ومن وجهة نظره فإن الأمر لا يتعدى في أن يكون فساداً مالياً وإدارياً يشهده الواقع الصحي في العراق، إذ يتطلب معالجات سريعة، وإلا سنجد في كل ناصية مجموعة من الشباب يحملون لافتة وصورة لمريض ما .


 عمليات جراحية كبرى 

ونفى مدير إعلام صحة بابل خالد عبد احمد، ما يتداوله البعض في أن هناك تقصيراً في تقديم الخدمات الصحية، منوهاً بأن ما يحدث هو رغبة بعض المرضى بتلقي العلاج خارج العراق، معتمدين على وسائل مساعدة بسيطة يقوم بها البعض من خلال جمع التبرعات، ويتابع قوله: "لدينا أطباء أكفاء لهم القدرة على إجراء العمليات الكبرى، فضلاً عن الأجهزة المتطورة ولكننا بحاجة إلى بناء جسور الثقة بين المواطن والقطاع الصحي، علماً أن بعض المرضى يعانون من أمراض بسيطة يمكن أن يقوم بها أي طبيب في القطاع الصحي الحكومي، مثل تبديل ورك او سحب الماء الأبيض من العين لكننا نتفاجأ أن صور هؤلاء المرضى تملأ الجزرات الوسطية، لغرض جمع التبرعات على حد قوله".

 ويعتقد عبد احمد أنها وسيلة للكسب غير المشروع استغلها بعض ضعاف النفوس، ولابد من متابعتها وايقافها لانها تسيء للمجتمع العراقي، ولا ضير في أن تنظم هذه الطرق بأساليب سواء عن طريق الجمعيات الخيرية او المؤسسات الدينية، طالما أن ذلك يخدم المرضى. 

مكرراً مناشدته إلى جميع المرضى الذين يعانون من مختلف الأمراض، بزيارة العيادات الاستشارية المنتشرة في المستشفيات من أجل الحصول على خدمات طبية جيدة، على يد أمهر الأطباء العراقيين الذين لا يختلفون عن الطبيب الأجنبي، وأن الأموال التي تصرف على العلاج خارج البلاد يمكن الاستفادة منها في جوانب أخرى .


مناشدات

المريض المتعافي حربي كاظم عزيز، الذي كان يعاني من انسداد في الشريان التاجي وأجرى عملية جراحية في العاصمة التركية اسطنبول، بأموال تم جمعها من أقاربه وأصدقائه قال: "إنه لم يجد العناية في المستشفيات الحكومية كما أنه كان لا بد أن يجري العملية في مستشفى خاص ولهذا اقترح عليه بعض من أصدقائه تصويره بين أطفاله، لغرض جمع التبرعات وإلا فإنه سيكون مضطراً إلى تسليم نفسه للقدر، وفعلاً رضخ عزيز لهذا المقترح ورفعت صورته في الشارع قرابة عشرة أيام، وحصل على ما يريد.

كما ينتظر مريض آخر إكمال مبلغ علاجه من خلال المناشدات، إذ تدور سيارة واضعة مكبراً للصوت في أحياء المدينة تذكر الناس بضرورة 

التآلف والرحمة والتبرع للمريض، كي يكسبوا رضا الله تعالى ولا يتعرضوا إلى عذابه.