حرب «الذهب الأسود».. ضحاياها ليس البشر

بانوراما 2023/03/04
...

 جيسون هورويتز

 ترجمة: ليندا أدور

في أحد الصباحات المشرقة في جبال بلدة كاميراتا نوفا بالعاصمة الإيطالية، روما، كانت بيلا، الكلبة الصغيرة بشعرها المجعد تتسابق بين أشجار البتولا، بينما كان مالكها  يجلس متكئا على مجرفة طويلة على شكل حربة، يصرخ مشجعا بيلا التي اندفعت نحو شجرة وبدأت تحفر تحت كومة من أوراق الأشجار الميتة. 

عندما ظهرت بيلا وهي تمسك بفمها ما بدا وكأنه كرة تنس سوداء اللون محترقة ذات رائحة فواحة، صاح ريناتو توماسيتي (80 عاما)، «ذهب أسود»، ليتبعها هو، وباقي مجموعة «صيادو الكمأ» في غابات جبال سيمبرويني، حيث تمكنت من التقاط رائحة أخرى من شجرة أخرى، فصرخ بها توماسيتي: «توقفي، اتركيه، اتركيه». فما كان من بقية الرجال إلا الاسراع لإبعاد بيلا عن جثة ثعلب ميت، كان عليها علامات تدلُّ على موته مسموما بالستركنين، بعيون مدمية، وأطراف ممدودة وأنياب مكشوفة على نحو كشرة حادة.

قتلة ومجرمون

سارع توماسيتي لوضع كمامة على فم بيلا، من فصيلة لاغوتو روماجنولو النشطة (يطلق على هذه الفصيلة في إيطاليا اسم كلب فطر الكمأ)، بينما كان باقي الصيادين يتحلقون، بتجهم، حول جثة الثعلب، عندها حضر أفراد من شرطة كارابينيري، وهم يحملون عصي القياس الخاصة وحقيبة مجمدة، وبدؤوا بتفحص المكان وكأنه مسرح جريمة.

«كان يمكن أن يكون أحد كلابنا»، يقول توماسيتي ملقيا باللوم على «قتلة ومجرمين منافسين» مجهولين لمحاولتهم قتل روح المنافسة للاستحواذ على الغابات الغنية بالكمأ «لأنفسهم»، إنها «حرب الكمأ الأبدية في إيطاليا»، التي يصل سعر الكيلوغرام الواحد منها الى أكثر من أربعة آلاف دولار، هناك نقص فيه بسبب التغير المناخي وتحديات البحث عنه جراء عمليات تسميم الكلاب عن طريق النقانق أو كرات اللحم المسمومة أو طُعم الحلزون.

«هذه المجزرة يجب أن تنتهي».. يصرخ بيلاردو برافي (46 عاما) بحزن، معبرا عن العلاقة القوية التي تربط بين صائدي الكمأ وكلابهم المدربة، اذ يعملان معًا تحت ضباب الخريف وثلوج الشتاء بحثا عن درنات لذيذة، هي بمثابة «كنز» تؤكل مقطعة في البيتزا أو مبشورة مع الصلصة أو مغمورة بالزيت لأطباق أكثر غنى بالنكهة والمذاق.

يعدُّ جمع الكمأ تقليدا إيطاليا عادة ما يصوَّر على أنه مجرد «تسلية» للطبقة العليا من المجتمع، ورد إيطاليا على صيد الثعالب، مصدر إلهام للكثير من «التجارب» السياحية الفاخرة والمتاحف والأفلام. لكن الحفر بحثا عن الكمأ كشف عن جانب خفي شرير وقاتل ومتعطش للمال، الذي جعل من هذا الفطر ليس مجرد طعام إيطالي عبق الرائحة، بقدر ما هو «خصم» الكلب البوليسي في حرب سرية مميتة وأبدية، قد تكون ضحاياها ليس الكلاب فحسب، بل حيوانات البرية كالثعالب والغزلان.

كنزٌ مدرٌّ للربح

لحماية مناطقهم الغنية بالفطر المدر للربح، يلجأ صيادو الكمأ المحليون لإخافة الدخلاء وإبعادهم عن المنافسة من خلال تفجير شاحناتهم الصغيرة وإطلاق النار على مركباتهم أو حتى ضربهم  بالمجارف. في العام 2018، أصبح الكلب «ويلا»، من فصيلة سبرنغر سبانييل، هو السادس الذي يقتل خلال عامين في بلدة برينيانو فراسكاتا، البلدة الصغيرة بإقليم بييمونتي، المشهور بإنتاجه للكمأ الأبيض الفاخر. 

«المئات من الكلاب تقتل سنويا» يقول توماسيتي، الرئيس الفخري لجمعية صيادي الكمأ بمنطقة لاتسيو، مضيفا بأن «هذا الأمر يحدث بعموم أنحاء إيطاليا، وأن الكثير من حالات العنف تلك، حدثت بإقليم أبرتسو، وسط البلاد، والمتاخم لكاميراتا نوفا، حيث حصلت العديد من عمليات تسميم الكلاب»، اذ يصل سعر الكلب المدرّب على شم الكمأ إلى 8500 دولار. يشير صيادو الكمأ الى أن أعمال العنف نادرا ما تحدث بسبب عدم رغبة أصحاب الكلاب الكشف عن مواضع حقول الكمأ السرية الخاصة لمنافسيهم، ففي بعض الأحيان، يكون الإنتقام من خلال دس السم في حقل أو بئر للمياه، لتطول الخسائر المدنيين كذلك. 

أكثر من طفل

مطلع شهر كانون الثاني الماضي، بينما كانت مارتينا إركولي، تقوم بنزهة في الطبيعة بين جبال سيمبرويني مع كلبها براندو البالغ من العمر سنة ونصف، تناول الكلب نقانق مسمومة ليسقط ميتا، بعد برهة، بين ذراعي شقيقها. لكن براندو ليس الوحيد، فقد تناول «ثاور»، وهو كلب يعود للسيد أنطونيو موراسكا، صائد كمأ هو الآخر، نقانق مسمومة، «أخرجتها من فمه، لكنه هرب مني، كان يحب لعبة الهروب، تناول قطعة أخرى من النقانق» يقول موراسكا، مضيفا «بدأ يرتجف، وعندما أخذته الى البلدة، بدأ يخرج الرغاوي من فمه، فأطعمناه الملح لكي يتقيأ، لكن سرعان ما تحول بياض عينيه الى الأحمر، وتيبست أطرافه، مات قبل أن نتمكن من الوصول به الى العيادة بنصف ساعة». متحدثا عن كلبه توم، الذي نجا من محاولة تسميم سابقا، وأنجب جيلا كاملا من «كلاب الكمأ»، ومن بينهم «بيلا» قبل أن يموت بين ذراعيه، يقول توماسيتي بأن: «الكلب بالنسبة لنا هو كالطفل، بل أكثر من ذلك»، مضيفا «لا أخجل من قول بأنني بكيته طوال الطريق من تيرني الى روما». دفع هذا الأمر، بالكثير من صيادي الكمأ وأصحاب الكلاب المدربة الى الحذر الشديد من الكشف عن عناوين منازلهم أو أماكن تواجد كلابهم، خشية تعرضها للسرقة بهدف البيع أو للقتل، كما أن البعض منهم وضع أنظمة مراقبة بالكاميرات، للإيقاع بمجرمي «الحرب السوداء».

*صحيفة نيويورك تايمز الأميركية