يساريو العراق وصياغة الثنائيَّات الخطابيَّة وإزاحة الخطاب البرغماتي
د. حيدر نزار السيّد سلمان
في شهر كانون الثاني من عام 1948 وَقَّعَ كلٌّ مِن "صالح جبر" رئيس الوزراء العراقي ووزير الخارجية البريطاني "إرنست بيفن" في مدينة بورتسموث اتفاقاً أولياً لمعاهدة بريطانية - عراقية جديدة تحلّ محلَّ معاهدة 1930 بصيغ محسَّنة ومعدّلة، ترفع كثيراً من الأعباء والالتزامات السابقة، وتمنح الدولةَ العراقيةَ فرصةً أفضل لِلاستقلال السياسي ولإقامة علاقات أكثر تكافؤاً.
نَشَرَت الصحافةُ العراقيةُ بعد أيّام قليلة أخبارَ المعاهدة الجديدة المزمَع عقدها، والتي صَرَّحَ بها وزيرُ الخارجية محمد فاضل الجمّالي. بيدَ أنَّ الأمرَ الأكثر إثارة تمثَّل بتدفّق الخطابات الشَعبَويّة والشعاراتيّة التحريضيّة على "صالح جبر" وحكومته «العَميلة»، وبحسب السيرة الشخصية والسياسية لجبر فقد كان شديد الإيمان بالسياسات الواقعية والحلول البراغماتية مدركاً لقدرات العراق السياسية والاقتصادية والعسكرية ضمن ظروف صعبة في سياق بروز ما عُرِفَ بالحرب الباردة والصراع بين المعسكرين الشرقي والغربي على أعقاب الحرب العالمية الثانية.
تحالف القوميون (حزب الاستقلال وجماعات صغيرة) واليساريون (ممثلين بالحزب الشيوعي وجماعة الچادرچي) في حملات عنيفة مضادّة لِلمعاهدة الجديدة رغم العداء الأيديولوجي والواقعي بينهما. غير أنَّ الخطاب الديماغوجي المليء بالشعاراتية والأصوات العالية ذات الصدى العاطفي المناهض بشدّة لحكومة جبر أفضى إلى تظاهرات عارمة في كانون الثاني عام 1948، إذ قادها شيوعيون متمرسون بالعمل السريّ وأسفرت عن إسقاط الحكومة.
على الرغم من توفر سوابق يمكن الإشارة إليها في مسألة انتشار الخطاب الشعاراتي والأصوات الشعبَوية العالية المناقضة لِلسياسة البراغماتية الواقعية التي اتّسم بها النظامُ الملكيّ ورجالاته منذ تربّعه في عام 1921 على رأس الدولة العراقية، فإنَّ ما حَدَثَ في أثناء ما عُرِفَ بانتفاضة كانون 1948يشكّل لحظةً فاصلةً لِتجسيد الصراع بين اتجاهين قد تنازعا على فرض هيمنتهما الفكرية وتشكيل رأي عام ينساق مع طروحاتهما ومواقفهما. وقد مثّلت أحداث كانون الأول لحظةَ التمايز الصريحة بين اتجاهَين سياسيَين وفكريَين سيتصارعان على الساحة العراقية، مستهدفان حيازة روح الجمهور، كما شكّلت تلكم الأحداث قاعدةً لِتفشيّ الخطاب الشعبويّ المصاغ بمفردات ومصطلحات جديدة تحمل دلالات عنفية في أحيان كثيرة، إذ اغتُرِفت جُلّها من الخزين الماركسي وخطابات الأممية الشيوعية الموزَّعة على قاعدة ثنائية المواقف. ولما كان خطاب النخب الحاكمة المشكّلة لِلنظام السياسي الملكيّ يتسم بواقعيته وبراغماتيته، فضلاً عن نزعته الأرستقراطية المترعة بالتجارب والخبرات المتكوّنة مِن نشاطات رجالات النخبة في فترة نهاية القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين وتأثرهما بالثقافة والفكر الغربيَين لا سيما بمسألةِ الدولة، وشكل النظام السياسي والعلاقات الخارجية وحكم الأقلية النخبوية، فضلا عن تحالفات الحرب العالميّة الأولى بينها وبين البريطانيين الفاعلين في وصولها إلى الحكم ومشكّلي الدولة الحديثة وحماتها، فإنَّ المقابلَ خطابٌ يمثّل خليطاً بين الراديكالية الثوريّة والشعبويّة التبسيطيّة، إذ نَهَضَ مسؤولاً عن الترويج لهذا الخطاب العراقي اليساريّ واعتناقه والتبشير به. وطبقاً لذلك فَرَضَ أصحابُ هذا الخطاب مسألةَ الثنائيات المتضادة ذات القدرات التأثيريّة الفاعلة في الوجدان الشعبي والمجتمع الذي تجذّرت فيه ثقافة مساعدة لتغلغل هذا الخطاب وتداوله بانتشار واسع، وسادت حينها ثنائيات كـ: تقدّم- رجعية، عميل- وطني، خائن- وطني، عامل- برجوازي، استعمار- استقلال، معسكر الحرب- معسكر السلام، (ومنهم على سبيل المثال جماعة أنصار السلم، ويمكن تدوين وإحصاء ثنائيات عدّة فَرَضَتْ قوّتَها على مجمَل الخطاب السياسي ابتداءً من نهاية عقد الأربعينيات وإلى الآن.
نَشَطَ اليسارُ العراقيُ، وفي مقدّمته الحزب الشيوعي، بالترويج الضخم لهذا الخطاب بدعاية مكثّفة وغزيرة الإنتاج على المستوى الأدبي، (يمكن ملاحظة ذلك في أدبيات الحزب الشيوعي وصحافته وبياناته ومذكرات رجالاته)، مستعيناً ببلاغة إنشائية عاطفية ولغة قاسية أحياناً، وبنفوذ شعبي بالاستناد إلى توسّع قاعدته الشعبية وتبشير أعضائه الكفوئين المثابرين بأفكار الحزب وخطابه وحرفيتهم العالية بهذا المجال، كما في مخاطباته للحاجات الاجتماعية الأساسية، لا سيما للفئات الفقيرة المشكّلة لأكثريَّة السكّان، داعما كلّ ذلك بسرديات صمود أعضائه واستبسالهم بالدفاع عن عقيدتهم وحراكهم في الشارع. وقد سخّرت الدعايةُ الشيوعية الداخلية والخارجيّة إمكانياتها الترويجيّة، متّخذة من الثنائيات التميزيّة وسيلةً فعّالة لترسيخ مفاهيم الحرب الباردة والمثاليات الماركسية بمنظومة العدالة والمساواة والتحرر وتمكين الضعفاء من السلطة.
جَسّدَتْ الدعايةُ الشيوعيةُ قدرةَ الخطاب الشَعبويّ الذي أضفت عليه الأحداثُ بريقاً بتحقيق هيمنة إيديولوجية عمدت لصياغة تصنيفات خطيرة بحسب الموقف والولاء والمنصب، وهكذا تَحوّلَ السياسيُّ البراغماتيُّ إلى عميل، والوسطيُّ إلى خائن، والمثقَّفُ المترفُ الهادف إلى نشر الرقيّ الاجتماعي كمثقّف لا عضويّ يمثل تَرَفَ البرجوازية والإقطاع وغير الملتزم بقضايا الشعب، مثلما هو حال المثقّف اليساري الكادح المؤدي دَوراً عضوياً طليعياً. وبالفعل نجح هذا الخطاب الأيديولوجي في تأكيد نفسه كمؤثّر في اتجاهات الرأي العام وعلى سياقه وِزعت التصنيفات بين الأسود والأبيض من دون وجود حالة متوازنة وسطية، إذ انزاحت الحلولُ التي تعتمد المرونةَ والتنازلات المتبادلة، أطّرتها مواقفٌ متصلّبة شديدة التطرف من الدين والوطنية والقومية والصراع الدولي بحدود المعسكرَين الشرقي والغربي. وفي هذا يمكن ملاحظة المواقف بين التيارات السياسية الناشطة عراقياً حول موضوعات من قبيل الوحدة العربية، وحلف بغداد، والعلاقات مع الغرب والاتحاد السوفيتي، وسياسات عبد الكريم قاسم والإصلاح الزراعي. وقد أفضى كلُّ ذلك إلى إضعاف لِفكرة الواقعية السياسية والفكرية وإزاحتها عن طريق العمل لتحلّ محلّها الاستعارات المستقاة من أدبيات الحرب الباردة كالثورية والحلّ الجذريّ والنضال المسلَّح والنعوت التحقيريّة. وهنا يُعرَض السؤال؛ هل كان اليساريون وحدهم من أبعدوا الوسطيّةَ والاعتدال عن السياسة العراقية وأقاموا بنيان الحديات الأيديولوجية؟
كان اليساريون الآباء المؤسسين المروّجين لهذا الخطاب، فَهُم الروّاد في نثر الشعبويّات القاتلة. بيدَ أنّهم بتصلّبهم أثاروا خصومَهم، أو بالأحرى أعداءَهم كالقوميين، وفي ما بعد الإسلاميين؛ فاغترفوا منهم صلابةَ الخطاب وعنفه وثنائياته التمييزيّة. وفي هذا كان لِلقوميين إسهامهم كما في؛ القومي- القُطْري، العروبي- الشعوبي، الوحدة الاندماجية- الاتحادية (الفيدرالية)، فضلا عن التشكيلة اللفظية اليسارية المذكورة أعلاه. وأكمل تيّارُ الإسلام السياسي المتقارب فكرياً وعَمَلياً مع القوميين والعدوّ اللدود لِليساريين الخزانة الاصطلاحية الثنائية مستعيناً بالتيارين الآخرين. بيد أنَّ استخداماتها أصبحت في تمايزاتها أشدّ تطرفاً وقسوةً وإقصائية للآخر كما في؛ مؤمن- كافر، إسلاميّ- علمانيّ، مستضعَف- مستكبِر، الهدى- الضلالة، الطليعة المؤمنة- النخبة، العالَم العرب- العالَم الاشتراكي- العالَم الإسلامي، وتُضاف إليها مفردات خطابيّة تشترك فيها كلّ التيارات.
فاقمت هذه الخطابيَّة البالغة الحدّة وتيرة التطرّف في السلوكيات السياسية وحتّى الاجتماعية، وأوجدت لها بيئةً حاضنةً تشرّبت بها، وراحت هي الأخرى توزّع وتصنّف بما يشبه اليقينيات غير القابلة لِلنقدِ والنقاش. وامتدَّ التأثيرُ إلى كتابة التاريخ العراقي الحديث والمعاصر الذي تعجّ صفحاتُه بالتقسيمات الثنائيَّة وهو يسرد قصّةَ الصراع بين العملاء والوطنيين، وفي كثيرٍ مِن الأحداث تحوّل الواقعيُّ الوطنيُ الباحث عن مصالح بلده بعيداً عن الشعاراتيَّة خائناً متخاذلاً عميلاً لِلأجنبي. وبين هذا وذاك زاد هذا الخطاب من إخفاقات معتنقيه ومروّجيه، فلا هم انتصروا بمعركة المصير ولا هم انزاحوا عن الساحة ليتركوا المجالَ لغيرهم. والأشدّ غرابةً أنَّ هذا الخطاب وبِفعلِ التطويق الأيديولوجي الدعائي المكثَّف حَقَّقَ نتائجَ مذهلة في المواقف والتصنيفات والتعبئة الشعبيّة، ويمكن لخطاب بائس مزوّد بأدوات مِن الصراخ الشَعبَوي أن يفعل فعلَه، وفي الوقت نفسه تحوّل البراغماتيُّ الوسطيُ إلى خائفٍ منزوٍ ليس له إلّا السكوت أو الاستسلام،
ما دام لا يلتزم بالنسق العام مِن الخطاب والمواقف. ورغم ضعف حدّة هذه الإيديولوجيا الثنائيّة التصنيف لم تعد بقوّتها القديمة لأسباب متعددة، لكنّها مازالت فاعلة ومؤثّرة لِقوّة تغلغلها في روح الجماهير.