بعد عامٍ على الحرب.. إلى أين تسير أوكرانيا؟

بانوراما 2023/03/05
...

 جون ليسستر

 ترجمة: بهاء سلمان

خلال الساعات الأخيرة التي سبقت بدء الهجوم الروسي، كان هناك أمل هزيل بالسلام وعدم نشوب الحرب؛ لسرعان ما ستتدفق القوات الروسية عبر الحدود الاوكرانية، ولتملأ الصواريخ الروسية سماء اوكرانيا، لتأخذ أرواح الاوكرانيين في أضخم هجوم جوي وبحري وبري شهدته أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية. لكن الرئيس الاوكراني، "فولوديمير زيلينسكي"، كان لا يزال يستنجد، مع  شفير الحرب، بأي سبب للانتصار.
وبوقوفه كشخصية لامعة وبجدية أمام الكاميرا في الخندق الأخير، وسط عتمة الليل، صوّر زيلينسكي مقطع فيديو ليطلق نداء ضد الغزو، محذرا روسيا من أن العواقب ستكون "كما هائلا من الآلام والدمار والدماء والموت". "الحرب هي عبارة عن كارثة كبرى،" هكذا قال الرئيس الاوكراني، حيث ظهر في أحد خطاباته الأخيرة ببدلته المدنية قبل أن يغيّرها إلى الملابس غير الرسمية؛ عسكرية الطراز، وأضاف: "تحمل هذه الكارثة تكلفة باهظة جدا، بكل ما تحمله الكلمة من معان."


يوم مشهود

كان تأريخ الفيديو هو يوم 24 شباط 2022، وقد مثل حدثا كارثيا لاوكرانيا، وتغيير المسار بالنسبة لروسيا، وصياغة للتأريخ بالنسبة للعالم الخارجي الأوسع. ومنذ تلك اللحظة، أثبتت كل ساعة في كل يوم منها أن هذه الكلمات حقيقية وصحيحة. ومع مضي الأحداث المهمة، كانت الذكرى السنوية الأولى لبدء الحرب محبطة ومزعجة في نفس الوقت، فهي تؤشر لسنة كاملة من القتل والتدمير والخسائر والآلام، وصلت حتى إلى ما بعد حدود البلدين المتحاربين، فضلا عن صدمات ارتفاع الأسعار المرتبطة بالحرب كمثال واحد ظاهر للجميع. غير أن الحرب تعمل أيضا على إثارة سؤال من النوع غير المرضي، لأنه لا يمكن الإجابة عليه ضمن هذه الفترة المفصلية: كم من الوقت سيدوم على هذا الحال إلى حين 

التوقف؟

"ليس قريبا بما فيه الكفاية،" ربما يمثل أحد الردود، رغم أن أي اتفاقية سلام تبدو بعيدة تماما مع تحضير القوات الروسية للدخول في العام الثاني من الحرب، مع عدم اقتراب أي طرف من طرفي الصراع من تحقيق أهدافه المنشودة. ومن الصعب تلخيص الشقاء الذي حمله 365 يوما من إراقة الدماء والحجم الكامل للأصداء العالمية بالكلمات فقط؛ فروسيا معزولة أكثر من أي وقت منذ الحرب الباردة، كما أن القوى الغربية تحشّد جهودها سوية في محاولتها لتحقيق هزيمة للرئيس الروسي فلاديمير بوتين، في الوقت نفسه الذي تقامر فيه أيضا بعدم جعل الضابط السابق للمخابرات السوفيتية يتجه نحو استخدام السلاح النووي. وتعمل الصين على الاستفادة  من الدروس التي ربما تخدم توجهاتها الحالية نحو

تايوان.


مآسٍ لا توصف

كيف يتسنى لنا تحديد كل المآسي؟ وكيف لنا وصف جميع حالات المعاناة والأعمال الوحشية بشكل كاف ؟ أو حتى قلب مكسور لطفل واحد على الأقل من الذين فقدوا أحباءهم ومستقبلهم؟ الأرقام تصيب المرء بالدوار، فقد فر مئات الآلاف من الرجال الروس خارج البلاد خوفا من إشراكهم في المعركة، ونزح ملايين الاوكرانيين من ديارهم، وتم إنفاق عشرات المليارات من الدولارات على الأسلحة التي تجعل الحرب أكثر فتكا من أي وقت مضى، وتقدر خسائر الاقتصاد العالمي ببضعة ترليونات أخرى من الدولارات؛ وكل هذه الأرقام لا تعادل الخسائر البشرية والاقتصادية.

أما بالنسبة لأعداد الجثث، فإنها بكل تأكيد تمثل الحصيلة الأكثر أهمية، لكن لنبقيها الآن بين قوسين لدى كل جانب، فكل ما يمكن قوله على نحو اليقين هي أنها تثير الفزع. 

فالمسؤولون الغربيون يخمنّون كونها تصل إلى عشرات الآلاف، وتتصاعد بشكل رهيب. لكن أوكرانيا لا تزال موجودة، وهذا الأمر بحد ذاته يعتبر هزيمة للكرملين، فالرئيس الروسي فلاديمير بوتين كان يعتقد أن قواته وأجهزته الأمنية السرية ستحوّل اوكرانيا إلى دولة تابعة لها بعد وقت قصير من بدء الحرب. ودفعت خطة الحرب المسؤولين الاوكرانيين المعارضين إلى تصفية خلافاتهم والتوجه للتعاون، وفقا لمؤسسة بريطانية تعنى بتقديم النصح والمشورة، بالاعتماد على جزء من وثائق روسية تم العثور عليها.

بدلا من ذلك، يعمل تهديد زوال اوكرانيا كأمة حرة على دفعها نحو التقارب أكثر من أي وقت مضى من محور الإتحاد الأوروبي والولايات المتحدة والغرب بعنوانه الأوسع، وهي النتيجة الأهم التي يسعى الروس لتجنّبها. وتعد كل وجبة إضافية لأسلحة قياسية يقدمها حلف الناتو، ومليارات الدولارات من المعونات الغربية، والتعهّدات بالوقوف إلى جانب اوكرانيا "مهما إستغرق الأمر من زمن"، تعد بمثابة اتفاقيات متينة من التي، أثناء وقت السلم، لربما تطلبت سنوات طويلة لبنائها والوصول إلى مستواها.


انعكاسات الحرب داخلياً

كانت أوكرانيا، التي استقلّت عن الاتحاد السوفيتي السابق سنة 1991، قد نمت أثناء فترة الحرب كدولة، فالقتال من أجل البقاء كأوكرانيين قد فرض جلاء الموقف عن مدى دقة ما تعنيه هذه الحالة، لتدفع مزيدا من الدم لملامح الهوية الوطنية. وفيما بات كونه يمثل خطابا يوميا مصوّرا لمشاركة الأخبار القادمة من جبهات القتال وتعزيز الروح المعنوية، يرتدي الرئيس الاوكراني أحيانا قميصا أسود اللون، مطرّزا بكلمة 

"أنا أوكراني". 

وانضم الكثير من الاوكرانيين إلى الرئيس في نبذ اللغة الروسية لصالح اللغة الاوكرانية لتمثل اللغة الأساسية لهم؛ كما تمَّت أيضا إزالة النصب الروسية، وتغيير أسماء الشوارع التي تحمل أسماء روسية، علاوة على رفع التاريخ الروسي من الكتب المنهجية في المدارس.

تقول "أولينا سوتنيك"، المحامية والبرلمانية الاوكرانية السابقة: "لقد فعل لنا بوتين شيئا لم يقدمه لنا أي شخص من قبل، إذ ساعدنا على أن نصير أمة حرة." خارج البلاد، ايضا، كسبت اوكرانيا تعاطف القلوب والعقول، والدليل على ذلك كثرة الأعلام ذات اللونين الأزرق والأصفر التي ترفرف على مباني البلديات، كما أن المقاتلين من دول أخرى وعمال الاغاثة يخاطرون بحياتهم، وأحيانا يفقدونها، في ساحات المعارك الاوكرانية المثقلة بالقذائف التي أحالتها إلى منطقة مدمرة بشكل هائل، لتذكرنا بشكل مخيف بالحرب العالمية الأولى. 

يقول "ميخايلو بودولياك"، أحد المستشارين المقربين من الرئيس زيلينسكي: "لن يتشوّش أي شخص مطلقا بعد الآن بين روسيا وأوكرانيا، ولن يقول أي أحد عبارة "إنها شيء ما هناك.. بالقرب من روسيا‘."


نتائج غير متوقعة

ويرى الأوكرانيون أنه بمقاومة بوتين، فقد قدموا للعالم خدمة كشف القناع عنه كعدو عنيف وخطير. فالرئيس الروسي، الذي سحر ألباب الرئيس جورج بوش الابن، الذي قال عنه سنة 2001: "لقد نظرت إلى الرجل في عينيه، ووجدته جاد تماما وجدير بالثقة،" والذي سار بعربة غولف سنة 2017 عبر حدائق قصر فرساي يقودها رئيس فرنسا، صار الآن شخصا منبوذا بالنسبة لقادة الغرب. لكن قادة آخرين بقوا مقربين منه، وبشكل لافت للنظر الزعيم الصيني شي جينبينغ". 

وعلى الرغم من الإخفاق بتأمين نصر سريع، تبقى قبضة الرئيس الروسي على السلطة محكمة، مع تشتيت التظاهرات، واصطفاف معظم الروس، على ما يبدو، خلف الجهود الحربية. ومع ذلك، لا تزال روسيا تقدم تضحيات لم يكن تخيّلها مسبقا.

في المعركة، كان على بوتين بشكل متصاعد التوجه لطلب الدعم من مجموعة فاغنر العسكرية، وهي منظمة ذات مهمات خاصة تعمل على تجنيد المقاتلين من السجون والزج بهم في ساحات القتال، مع معدلات مرتفعة في الاصابات. كما أن الرئيس الروسي يخسر أيضا نفوذه في ميدان الطاقة على القارة الأوروبية، مع تحوّل الأوروبيين بعيدا عن مصادر الغاز والنفط الروسي؛ اضافة إلى خضوع الاقتصاد الروسي لعقوبات اقتصادية من قبل القوى الغربية. ومع محاصرة القدرات الروسية، يخشى البعض من امكانية شنها لهجمات مفاجئة بوسائل جديدة، وربما اللجوء إلى المزيد من التهديد باستخدام السلاح النووي، أو ما هو أسوأ.


إصرار على مواصلة الحرب

بيد أن التاريخ يكتب من قبل المنتصرين في الحرب، ولحد هذه المرحلة، فمحصلة الغزو بعيدة تماما عن الوضوح. كانت إحدى الأخطاء الأساسية للروس هي محاولتهم غزو بلد بحجم فرنسا بقوة قدرتها المصادر الغربية بأنها تفوق بالكاد حجم القوات التي حشّدها الحلفاء لتنفيذ إنزال النورماندي في الحرب العالمية الثانية. كما أن مهمة يوم السادس من حزيران سنة 1944 كانت أضيق بكثير، فقد تلخّصت بالهجوم على خمسة شواطئ فرنسية، من أجل فتح ثغرة منها ليتمكن الحلفاء بعدها من الاندفاع داخل أوروبا المحتلة من قبل القوات النازية.

يعمل الروس الآن على إلقاء المزيد من المعدات الحربية والرجال على المشكلة التي صنعوها بأنفسهم، مع تجنيدهم لقوات تقدر أعدادها بثلاثمئة ألف جندي لشن هجوم جديد لم تعلن عنه القايدة الروسية حتى الآن، لكن المسؤولين الغربيين والاوكرانيين يقولون إن القوات الروسية تزحف مسبقا داخل شرق اوكرانيا. أما "ادوارد سترنغر"، المارشال الجوي المتقاعد، وهو الضابط الرفيع المستوى سابقا من القوة الجوية الملكية البريطانية، فيقول محذرا: "لا ينبغي للمرء أن تضلله عبارة "اوكرانيا الصغيرة الشجاعة"، لأن روسيا أضخم بكثير، وهي بمقدورها طحن اوكرانيا تماما. إذ إن بمقدور روسيا إرغام اوكرانيا بنفاد خزينها من الإطلاقات النارية من خلال وضع شخص روسي واحد بمواجهة كل رصاصة، لغاية نفاد آخر رصاصة أوكرانية قبل أن ينتهي الروس من الإعداد للهجوم".

بالتأكيد، كما يقول بودولياك، الوقت لا يقف مع الجانب الأوكراني، بل ضده تماما، معلقا بأن: "الحرب الطويلة هي بمثابة موت بطيء بالنسبة إلى اوكرانيا، لكن الذكرى السنوية الأولى للغزو معناها أننا نسير على الطريق الصحيح. الأمر معناه أننا لدينا اوكرانيا مختلفة، فهي تبدو مختلفة بالمرة".


تغييرٌ هائل

بالتالي، فالحياة المختلفة الجوانب لما قبل الحرب تعد الذكرى الأكثر ضبابية على الاطلاق. بالعودة لتلك الفترة، لم تكن النصب في العاصمة كييف تختفي وراء جدران من أكياس الرمل؛ ولم يكن الناس مضطرين لإملاء أحواض الاستحمام بالماء عندما تطلق صفارات الإنذار الخاصة بالغارات الجوية أصواتها، لكي يكون لديهم ماء إذا ضربت الهجمات الروسية مصادر الامداد بالمياه، كما لم يضعوا على هواتفهم النقالة التطبيقات التي تصدر إنذارا صاخبا، حينما تكون الصواريخ الروسية وطائرات الدرون المقاتلة في طريقها إليهم. ولم تحتوِ هذه التطبيقات على إشارات لزوال الخطر.

وتتذكر "سوتنيك"، البرلمانية السابقة، حالة الذعر التي تملّكتها حينما بدأت الصواريخ الروسية تضرب العاصمة كييف قبل عام من الآن، إذ اتّصلت بوالدتها، طالبة منها حزم الأمتعة. أما الآن، فلدى سوتنيك دراية أفضل بكيفية التحرّك والمناورة أثناء حصول غارة جوية، وتقول: "الأمر ليس وكأنّما صرنا أكثر شجاعة، فنحن بتنا فقط أكثر دراية بما تعنيه هذه الكلمة.. "الحرب".

قبل حصول الغزو، لم يكن يوم 24 شباط يعني شيئا مؤثرا يثير مشاعر محددة في التاريخ العالمي، ففي مثل هذا اليوم من سنة 1981، أعلن الأمير تشارلز والأميرة ديانا خطوبتهما، وولد "ستيف جوبز"، مؤسس شركة ابل في مثل هذا اليوم من سنة 1955. أما سنة 1938، فقد شهد هذا اليوم إنطلاق أول فرشة أسنان مصنوعة من شعيرات النايلون الخشنة، وسميت حينها "فرشة أسنان الدكتور ويست العجيبة."

كل هذا لا يثني المتشائمين من التذكير بما قاله زيلينسكي محذرا مع بدء الحرب، فالعام الماضي كان مليئا بالآلام والدمار والدماء والموت؛ والقادم سيحمل معه المزيد والمزيد من المآسي. 


وكالة اسيوشيتد برس الأخبارية الأميركية