{رحيق الربيع الأول}.. طواف جمالي في مرابع الثقافة

منصة 2023/03/06
...

  د. نزار فلوح   

 

"رحيق الربيع الأول: دراسات ومقالات"، الكتاب الصادر عن دار «الآن ناشرون ومُوَزِّعون» في عمّان، هو باكورة أعمال الباحثة والكاتبة العراقية هدى عبد الحرّ. وقد احتوى الكتاب الذي جاء في 140 صفحة من القطع المتوسط على باقة من المقالات الأدبية المتنوعة والقراءات التعريفية والنقدية الممتعة، استمدت المؤلفة مادّتها الأولى من منابع الثقافة والأدب والشعر في العراق. وقد صُنِّفت مقالات الكتاب في أربعة محاور وفق رؤية تأليفية واستقبالية، وأعطيت عناوين إيحائية ذات طابع جمالي مُعَبِّر، وهذه المحاور هي: 

1 -  في حضرة الشعر (قراءات في تجارب شعرية). 

2 -  في وداعهم (مراثي الراحلين).

3 - دفاعاً عن الوعي والجمال (تأملات تربويّة وجمالية).

4 -  في فضاء النّجف (سيرة ثقافية للمدينة وأعلامها).

تناولت مقالات القسم الأول «في حضرة الشعر» عدداً التجارب الشعريّة العراقية المتميزة، رأت المؤلفة أنّها تستحقّ الوقوف عندها بوصفها علامات دالّة في المشهد الشعري العراقي الخصب والمتحرك، ولعلّ من أبرزها تجارب الشعراء الشباب: مؤيد نجرس ووسام العاني وأسرار العكراوي ومعتصم السعدون وجاسم محمد جاسم وقيصر أبو طبيخ... وقد اقتصرت كلّ وقفة من هذه الوقفات على قراءة قصيدة معينة للشاعر دون الغوص في التجربة كلّها، ما يجعل هذه المقالات مفاتيح مستقبلية للعودة إلى تجارب هؤلاء الشعراء بتوسّع أكبر ورؤية أعمق. 

حملت هذه القراءات في نصوص الشعراء وتجاربهم العناوين الآتية: على سلّم الذكرى: قراءة في عالم مؤيد نجرس - قيصر أبو طبيخ.. بلاغة الأداء الشعري - «غمرة التيه» قراءة في قصيدة وسام العاني - وقفة تأمل في نصّ: «بذار النار» لنذير المظفر - العروس «الموصل» و «الهلاهل» بغدادية: قصيدة الشاعر معتصم رشيد حمد السعدون في تحرير الموصل - حركية الصورة وظلال المأساة قراءة في قصيدة «دم السّبط» للشاعر سليم رسول - «نيابة عن المطر»: للشاعر جاسم محمد جاسم.. مدخل لقراءة نصية - ابتهالات كاظم البياتي.. قراءة في جماليات التكرار - البحث عن الفردوس.. ما بين الشاعر والناقد: حول مجموعة «البحث عن الفردوس» للشاعر مجيد ياسين - البُعد الموسيقي في قصيدة «هم الباسقون السُّمر» للشاعرة أسرار العكراوي - «عشبة جلجامش»: قراءة في عالم عبد الرزاق الربيعي الشعري. وختمت المؤلفة هذا القسم بقراءة تعريفية لكتاب «جراحات حيفا.. عذابات الكرمل: الشكل والمضمون في شعر محمود درويش» للباحث د. نادي ساري الديك.

   لحظت الباحثة في مقاربتها للنصوص حضور موضوعات الطفولة والحنين والشجن والغربة والاغتراب والذكرى والتيه، إذ جاءت القصائد مُفعَمَة بمشاعر الشوق والنأي والوحشة والعذاب، في تجسيد إبداعي لحالة الضياع والتيه التي أصابت العراق جرّاء عهود الظلم والاستبداد، وما حلّ بالمجتمع العراقي من حصار قاسٍ ومآسٍ وفوضى عارمة، أيقظت شعوراً عارماً بالغربة والاغتراب طال وجدان العراقيين في الصميم.

وعلى المستوى الفنّي، رصدت الباحثة البنية اللغوية والمعجم الشعري للشعراء ونصوصهم، فوقفت عند دلالات الأفعال وأزمنتها، ودلالات الضمائر، وجماليّات المطلع والختام، وجماليات التكرار، ومستويات بناء الصورة الشعرية، والموسيقى الشعرية الخارجية والداخلية والقافية، إضافة إلى أساليب التضمين والاقتباس. وقد أنتج الشعراء بهذه الوسائل والأساليب - في رأي الباحثة - قصيدة متميزة ذات هوية عراقية أصيلة.

خصصت الكاتبة القسم الثاني من الكتاب لوقفات تكريمية وتأبينية لعدد من أعلام العراق الراحلين، فكتبت تحت عنوان «عبد الحسين حمد إنساناً وشاعراً» مرثية ألم ووفاء للشاعر والمربي والكاتب العراقي عبد الحسين حمد (توفي عام 2016). و«في وداع حمودي السلامي» الشاعر والمناضل السياسي في عزلته وصمته الطويل (رحل عام 2014). وتوقفت عند عطاء الأديب والصحفي الرائد جعفر الخليلي الذي كان صاحب ثقافة موسوعية، وعُرِفَ بغزارة إنتاجه وأعماله التي تنوعّت بين البحث والمقالة والقصة والمذكرات (توفي عام 1985). واشتمل هذا القسم أيضاً على مقالتين وجدانيتين فيهما بوح تفجعي مؤثر حول أحزان العراق، والموت الذي يفتك بأطفاله ومواطنيه. 


دفاعاً عن الوعي والجمال 

تمثّل مقالات هذا القسم - وهو الثالث من الكتاب - وجهاً إيجابيّاً آخر لاهتمامات الكاتبة، إذ تُفرِد بعض مقالاتها للحديث عن قضايا إنسانية وعمرانية وتربوية نبيلة، فتتساءل في إحدى مقالاتها عن سرّ غياب أو تغييب المكتبة المدرسية التي كانت منبعاً لتنمية القدرات وتوظيف الطاقات، واكتشاف المواهب وتشجيعها بطريقة إيجابية. 

كما تستغرب غياب وتراجع بعض الموادّ والمُقرَّرات والمناشط، التي كانت تصقل شخصية التلاميذ والطلبة المتعلمين من الجنسين، كدروس التربية الزراعية والصّحّية والتربية الأخلاقية والأسرية، التي تراجعت في مناهجنا التعليمية الحاليّة أمام الموجة الكاسحة لما تقدّمه وسائط (السوشل ميديا) من كمّ هائل وخليط غير مدروس من القيم والمعلومات غير الموثوقة وغير المعتنى بتوجيهها على النحو التربوي الصحيح. 

 وتقف الكاتبة في آخر مقالات هذا القسم عند ظاهرة التلوّث البصري والبيئي، فتتحدث عن الفوضى العارمة في العمارة بعد أن اجتاح التخريب الذوقي المشهد المدني والعمراني، وتتساءل: كيف لبلد أنجب أسماء لامعة في النحت والعمارة أمثال جواد سليم، ومحمد غني حكمت، ومحمد مكّية، وخالد الرحال، ورفعت الچادرچي، وزهاء حديد، وغيرهم.. أن تنتشر فيه هذه النصب المشوّهة والجداريات البائسة؟! 

تطلّ الكاتبة في القسم الرابع والأخير من الكتاب على عالم مدينة النجف، منبع العلم والعلماء، وموئل الفكر والفقه والأدب والثقافة، فتكتب عن «آل شرارة: من بيت جبيل إلى النجف: سيرة فكر» تلك العائلة الثقافية الشهيرة والعريقة التي قدم كبيرها محمد شرارة من جبل عامل في لبنان في عشرينيات القرن الماضي، وشقّ طريقه «من الإيمان إلى حرية الفكر»، وهو عنوان الكتاب المهم الذي أصدرته ابنته د. بلقيس شرارة عنه. ولا يجهل القارئ العربي اسم الأكاديمية اللامعة والمترجمة د. حياة شرارة، صاحبة المؤلفات والمتَرجَمات المُهمّة، ورواية «إذا الأيام أغسقت» التي صدرت بعد وفاتها. 

وتعرض المؤلفة في مقالة أخيرة لمحة عن المجالس الثقافية في مدينة النجف، تلك المدينة التي تعيش هاجس الثقافة والمعرفة بشكل يوميّ وكأنّه زادها وشرابها الذي لا غنى عنه ولا بديل.

يُسجَّل لهذا الكتاب، للباحثة هدى عبد الحرّ، فضل التعريف بهذه الكوكبة المتميزة من أعلام الأدب والفكر والثقافة في العراق، وهو يحفّز عند القارئ الرغبة والتوق إلى ارتياد فضاءات الثقافة العراقية وأجوائها، وقراءة فصول جديدة من إبداعات الشعر العراقي، والاطّلاع على مزيد من نتاجات الأدب والثقافة والفكر في هذا البلد ذي الجذور الضاربة في الحضارة والتاريخ.

ويُذكَر أنّ مؤلفة الكتاب الباحثة هدى عبد الحرّ تحمل شهادة بكالوريوس في اللغة العربية، وبكالوريوس في الإعلام، وحصلت مؤخراً على شهادة الماجستير في الصحافة الإذاعية والتلفزيونية، ولها العديد من المقالات والمتابعات في صحف عراقية وعربية عدّة.