عقارات بغداد تزدهر على حساب مناطقها الخضراء

بانوراما 2023/03/07
...

 جين عراف وياسمين موسيمان

 ترجمة: فجر محمد

تكمن المشكلة في ارتفاع درجات الحرارة في واحدة من أكثر مدن العالم سخونة، حيث يعد تكييف الهواء رفاهية لا يستطيع إلا الأغنياء تحملها.

على طول الطريق السريع في ضاحية الدورة ببغداد، ترتفع جذوع أشجار النخيل الميتة المقطوعة الرأس على امتداد التربة الرملية مثل أصابع تخرج من قبر، وتحل آثار ازدهار البناء في عاصمة العراق الآخذة في الاتساع محل بقايا البساتين المورقة.

تمت التضحية بالعديد من البساتين والحدائق في بغداد لصالح بناء غير منظم إلى حد كبير طيلة العقد الماضي، ما قلل من المساحات الخضراء التي ساعدت عموما في الحفاظ على العاصمة، وجعلها ملائمة للعيش تحت  ظل ارتفاع درجات الحرارة في واحدة من أكثر المدن سخونة على مستوى العالم. 

تتسارع أعمال البناء سواء القانونية ام غيرها في بغداد وسط نقص خطير في المساكن، ووصفها رئيس الوزراء بأنها أموال مغسولة تتدفق على استثمارات عقارية كبرى.

مريم فيصل المحاضرة في كلية الفارابي الجامعية ببغداد قالت: "نحن نفقد تدريجيا الرئتين الحيتين لمدينتنا".

تعد بغداد، التي يزيد عدد سكانها عن سبعة ملايين نسمة، من أكبر مدن العالم العربي.

تتقاطع بغداد مع نهر دجلة، فقد كانت يوما ما مركز العالم الإسلامي، وتشتهر بحدائقها التي تشرح الصدر . 

وتبين السيدة فيصل أن المساحات الخضراء في العاصمة تقلصت خلال العقدين الماضيين بنحو 12 %، بعد أن كانت هذه المساحات تصل إلى اكثر من 28 بالمئة.

وتشير الدراسات إلى أن مناطق الظل في بغداد أبرد بخمس درجات عن تلك المفتقرة إلى غطاء نباتي. فبدون الأشجار والنباتات، تقوم الأسطح الخرسانية والمعدنية بامتصاص الحرارة ثم تعكس اشعتها مرة أخرى، لتصنع ما يعرف باسم جزر الحرارة (الحضرية).

تمَّ تقييم العراق، مع انخفاض منسوب المياه فيه، واشتداد الجفاف وتزايد عدد السكان بسرعة على أنه أحد أكثر البلدان عرضة لتأثيرات تغير المناخ في العالم. لكن الحكومات المتعاقبة تجاهلت الأزمة المتفاقمة، بحسب دعاة حماية البيئة. ويشير مدير التخطيط في بلدية بغداد محمود عزيز إلى أن فقدان المساحات الخضراء تسارع منذ عام 2003. نتيجة "لضعف الدولة واجراءات المراقبة".

في مدينة وصلت فيها درجات الحرارة خلال الصيف إلى 48 درجة مئوية تقريبا، تشكل الحرارة المرتفعة بشكل خطير، مع زيادة تلوث الهواء مخاطر خاصة على الفقراء، الذين لا يستطيعون توفير مكيفات الهواء. كما أن كبار السن والرضع والمرضى معرضون للخطر بشكل خاص.

في العقود القليلة الماضية، ارتفعت درجات الحرارة في دول الخليج والعراق،  بمعدل وصل إلى ضعف المعدلات العالمية، وأكثر مما هو في العديد من مناطق العالم الأخرى. والآن، تكاد تكون أسوأ شهور الصيف غير صالحة للعيش.

في البصرة، المدينة الساحلية المشبعة بالبخار، أظهر تقرير حديث لصحيفة نيويورك تايمز أن العاملين في الهواء الطلق معرضون لخطر الإصابة بضربة الشمس ومشكلات القلب وأمراض الكلى بسبب الحر.

كما أسهم ارتفاع درجات الحرارة والانقطاع المتوالي للكهرباء بزيادة استخدام المولدات العاملة بالوقود لتشغيل مكيفات ومبردات الهواء لمن يستطيعون تحمل تكاليفها، ليسهم بشكل أكبر في انبعاثات غازات الاحتباس الحراري.


مشاريع مدمرة

رغم أن بعض عمليات إزالة الغابات غير قانونية أو مرتبطة بالتنمية، من خلال تصاريح غير رسمية للبناء، فقد نفذت المشاريع الكبرى التي دمرت آلاف الدوانم من البساتين ومنها النخيل بموافقة السلطات المحلية.

توضح، مديرة مكتب الأمم المتحدة في العراق آنا سواف، أن بعض المساحات الخضراء التي تختفي تُعزى إلى قانون الاستثمار لعام 2006 الذي شجع على خصخصة الأراضي المملوكة للحكومة لبناء مراكز تسوق ومجتمعات سكنية مسورة.

كانت ضاحية الدورة، الواقعة على الأطراف الجنوبية لبغداد، تقليديا عبارة عن مزيج من الأراضي السكنية والصناعية والزراعية، تنتشر فيها بساتين النخيل الضخمة والحمضيات.

يقوم مفتشو البلدية بالتحقيق الروتيني في تقارير عن تدمير غير قانوني لأشجار النخيل غالبا عن طريق صب الكيروسين أو البنزين على الجذور - للسماح للمالكين بالبناء على الأرض. لكن الدوريات المسؤولة عن الأشجار في البلدية، حتى المدعومة من قبل وزارة الداخلية، لا تناسب جنون التنمية الذي دمر الحدائق والبساتين.

يقول مدير التخطيط في البلدية: "في الدورة،على سبيل المثال، نذهب في الصباح لنرى أن الأشجار تعرضت للقطع ليلا".

ويتابع أن قطع الاشجار عمل غير قانوني، واذا ما تم القبض  على الفاعلين فسنعتقلهم ونزجهم في السجن.

كان قد تم تدمير بعض البساتين بسبب ما أشيع إلى حد أكبر عن انشاء أكبر مراكز التسوق في الشرق الأوسط، هو (العراق مول). ومن المتوقع افتتاحه العام المقبل بمساحة تصل إلى ستة ملايين قدم مربع ويضم الماركات العالمية ودور السينما ونوافير المياه الراقصة.

وقال غيث قاسم، رئيس بنك نور العراق، الذي يمتلك 37 % من شركة جوهرة دجلة الاستثمارية للمركز التجاري، إن مجموعته حصلت على ترخيص من هيئة الاستثمار في بغداد للبناء على أرض كانت مملوكة للدولة.

وينوه قاسم بأن الأراضي الزراعية ماتت الآن، وأن الكثافة السكانية في بغداد آخذة بالارتفاع للغاية، وقد تحولت العديد من الأراضي الزراعية إلى سكنية أو تجارية".

عبر الشارع ومن موقع البناء، حيث كانت بساتين النخيل  تغطي أراضيها قبل بضع سنوات فقط، قد توقفت اعمال البناء في مركز تسوق آخر أصغر وهو مشهد مألوف في بغداد، حيث تم إغلاق العديد من المشاريع بسبب المخالفات أو من قبل مسؤولين فاسدين يطالبون بالرشاوى لاستئناف العمل، بحسب سكان بغداد.

أصبح الاستثمار العقاري في بغداد أداة رئيسية لغسيل الأموال في العراق، بحسب مسؤولي الحكومة المحلية. ويتم دفع ثمن الممتلكات في بغداد بشكل روتيني نقدًا.

بعد أن أعلنت الحكومة العراقية أواخر العام الماضي مليارين ونصف المليار دولار من الأموال العامة فقدت في عملية احتيال ضريبية،  قال رئيس الوزراء محمد شياع السوداني إن جزءا كبيرا من العائدات تم تحويله إلى مشاريع عقارية مرموقة في بغداد.

في تسعينيات القرن الماضي، عندما كان العراق يخضع لعقوبات بقيادة أميركية تستهدف الدكتاتور صدام، كان سكان بغداد يقطعون الأشجار للحصول على الوقود.


نزوح

اوضح مسؤولون وباحثون أن الطفرة السكانية والهجرة من المحافظات الأفقر بعد غزو 2003 الأميركي أدت إلى زيادة الطلب على المساكن والسلع الاستهلاكية ليعجل باختفاء المساحات الخضراء.

لقد أصبحت اللوائح البلدية التي تقيد النسبة المئوية لقطع البناء التي يمكن أن يشغلها منزل أو مبنى سكني غير واضحة على نطاق واسع. العديد من المباني الحديثة ترتفع على بعد أمتار قليلة من الرصيف، ولا يوجد مكان للحدائق.

قالت السيدة فيصل، المحاضرة الجامعية، عندما تتجول الآن في بغداد، هناك العديد من المناطق التي ليس بها شجرة واحدة، خاصة تلك المشيدة حديثا.

مضيفة أنه "في العديد من مشاريع الإسكان الآن، عندما تفتح باب شرفتك ستجد اخرى امامك" .

على بعد ميلين من موقع بناء العراق مول، جلس أحمد سالم الجبوري، وهو شيخ عشيرة ، في منزله محاطًا بأشجار النخيل في بستان مساحته عشرة دوانم تمكن من التشبث به. ويرفض بيعه بعكس جيرانه الذين باعوا أرضهم  لأجل الاستفادة المادية. ويرى الجبوري أن أرضه هي وجوده وشرفه فكيف لاحدهم بيع شرفه؟. ووفقا للجبوري فإن أسرته تعيش على الأرض منذ أن جاء جده الأكبر من سوريا عام 1841، موضحا أن بعض الجيران قرروا البيع بعد أن قطعت قوات الأمن المياه عن بساتينهم. وبينما بقيت أشجار النخيل لديه، فقد ذبل البرتقال والتفاح والكمثرى الأقل تحملا لنقص المياه.  ويردف الجبوري أن الزراعة انتهت لأنه لا يوجد دعم حكومي على الإطلاق.

بالنسبة للعديد من سكان بغداد، تعتبر الحدائق بمثابة تذكير بعصر أكثر جمالا قبل أن تتشتت الأسر بسبب الصراع، عندما كان الأطفال يلعبون في المساحات الخضراء ويتم تقديم الغداء في الهواء الطلق.


بيع البساتين

كانت حتى المنازل المتواضعة والمنخفضة الارتفاع تمتلك في الغالب حديقة صغيرة. ففي الأعظمية، أحد أقدم أحياء بغداد، كانت نوفا عباس تتمشى، وهي من السكان القدامى، وسط ما تبقى من حديقة أهلها، مشيرة إلى الياسمين الوردي، والزنابق، والرمان، والنخيل، وأشجار الماغنوليا. وكما هو شائع في بغداد، كانت الأشجار محمية من أشعة الشمس بالشباك.

وتقول عباس:" إن بعض أشجار النخيل تسقى من بئر، وهذه الاشجار زرعها جدها خلال القرن الماضي".

الأعظمية، مع بساتينها الضخمة بالقرب من نهر دجلة، كانت عموما واحدة من أبرد مناطق بغداد في الصيف. وكانت أشجار اليوكالبتوس الكثيفة وذات الطبيعة الشرقية المنتشرة في كل شارع تقريبًا تمنع الغبار. 

وتبين السيدة عباس 54 عاما انه حتى في أيام شهر آب الحار، لم تكن بحاجة الا إلى مروحة فقط لان منطقتها، الاعظمية، كانت درجة حراراتها أقل من مناطق بغداد جميعا بقرابة خمس درجات. وانه تم بيع بساتين اسرتها تدريجيا وغادروا البلاد جميعا.

منزل السيدة عباس، الذي كان محميا بدونمات من أشجار النخيل، يطغى عليه الآن جدار خرساني لمنزل متعدد الطوابق. وتختم بأن 70 منزلا على الأقل تم بناؤها على البساتين التي كانت أسرتها تمتلكها، والعديد منها بلا أشجار أو حدائق، فالناس اليوم يبنون غرفا للجلوس وسط الدور، وهم لا يأبهون بالحدائق".


عن نيويورك تايمز الاميركية