الانعكاسات النفسيَّة لشخصيات رواية {اللا سؤال واللا جواب}

منصة 2023/03/07
...

   أثير جليل ابو شبع

     عالميًّا يعد فيودر دوستيفسكي رائد الرواية النفسيَّة، بل إن مدرسة التحليل النفسي لفرويد اعتمدت على شخصياته في إرساء بعض أسسها كما يخبرنا بذلك فرويد نفسه. أما عربيا فهناك الكثير من الأعمال التي قامت ببناء شخصياتها على أسس فرويديَّة أو الإنسان الفرويدي وخصوصا رواية {السراب} للكاتب نجيب محفوظ.                               

أما على المستوى العراقي فبرزت شخصيات روائيَّة عراقيَّة عدة، كتبت الرواية النفسيَّة وبشكل كبير، منهم فؤاد التكرلي، والذي يقوم ببناء شخصياته الروائيَّة على أسس فرويديَّة كبطل رواية "الأوجاع والمسرات" ورواية "اللا سؤال واللا جواب" التي بين أيدينا لهذا اليوم.

عبد الستار الشخصية الرئيسة ومحور أحداث الرواية، متزوّج من ابنة عمته الأرملة، ولديها هيفاء من زوجها المتوفي وكوثر من عبد الستار نفسه.

 عبد الستار يتحرك بدافعين فقط هما الشهوة والغضب، ويتضح هذان الدافعان خصوصًا عند تعرضه إلى حالات الجوع المتكررة نتيجة زمن الحصار المفروض على الشعب العراقي في تسعينات القرن الماضي. 

ولا ننسى التعب الذي عاناه عبد الستار في سبيل توفير لقمة العيش لأسرته.

(الجوع والتعب) سببان رئيسان لفقدان الجسم قوته، ومن ثم الإصابة بالكثير من الوساوس والأفكار المزعجة وعند استدامتها ستؤدي إلى سيطرة اللا وعي على الوعي، ويصبح اللا وعي هو المتحكّم والمتصرّف في الجسد ليبرز للخارج الدافعان الرئيسان اللذان تمَّ ذكرهما، وتتضح لدينا هذه الصورة في رواية التكرلي، تحديداً في صفحة 39 من الرواية التي كانت من إصدارات دار المدى: (كنت أسترجع خلال فترات السياقات الطويلة تلك الليلة المفقودة من ذاكرتي محاولا بجهد ان أجد أسباب علاقتها بزيارتي لمكتبة ابي وعملية الجنس العنيفة التي مارستها مع زوجتي...).

دافع الشهوة واضح من خلال مجامعته لزوجته، ودافع الغضب هو العنف وايضًا زيارته للمكتبة لأنّه خبَّأ الآلة التي ضرب بها أحد السكارى الذين أقلهم لإحدى ضواحي المدينة.

ويستمر التكرلي في حصر دوافع عبد الستار بهذين الدافعين.

يقول فرويد إن ما مِن شيء يُسمى حادثة أو صدفة، واكتشف كيف أن المشاعر والأفكار والدوافع والأمنيات والأحداث، التي قد تبدو عشوائيّة، تحمل معانٍ خفيَّة.

يشير الكاتب إلى زلات اللسان التي يسميها علماء النفس "زلَّة فرويديَّة"، والتي تدلنا على أهمية المعاني الباطنة للأشياء التي نقولها ونفعلها.

بمعنًى آخر، لو حدث ونسيت مفتاحك في شقة من تحب "بالصدفة"، فأغلب الظن أنَّك، من دون وعي، تركتها بهدف الرجوع إلى شقته ثانيةً، رغبةً في رؤيته.

بدايةً من الأحلام والزلَّات الفرويديّة وحتى التداعي الحر، لا يزال التعمّق في اللا وعي بغرض تحرير الرغبات، أو الصدمات، أو الدوافع المنسيَّة المحرّمة، خطوةً شديدة الأهمية تجاه معرفة أصدق بالسلوك البشري.

وهذا ما نجده في صفحة 7 حيث يستهل الكاتب قوله: "لا يمر كل شيء في الحياة المعيشة هذه، مروراً عابراً.

هنالك، على مدى السنين حالات ومواقف تصهر نفس الإنسان وتختمها بختم لا يمحى".

وهذا يطابق ما قاله فرويد عن نشوء اللا وعي وتحكمه بتصرّفات الفرد الإنساني.

أما علاقة عبد الستار بابنة زوجته، والتي كانت بمثابة ابنته، فقد أراد الكاتب إظهار العلاقة الفرويديّة القائمة على الجنس واشتهاء الآخر.

وهكذا يتكرر دافع شهوة الجنس بين صفحات العمل باعتباره دافعًا او مهربًا من آلام الحياة ومتاعبها، ففي صفحة 99 و10.

ينتقل الراوي من كونه الراوي المشارك بالأحداث إلى الراوي العليم وذلك في القسم الثاني من الرواية؛ حيث رصد الراوي العليم تحركات عبد الستار كلها إذ كانت متناوبة بين الشهوة والغضب كما نلحظه في صفحة 82 و84.

أما شخصية زكية زوجة عبد الستار، والتي هي في الأصل كانت حبه الأول وابنة عمته، فقد أظهرها الكاتب على شكل شخصية ضعيفة ليس لها قرار في حياتها الخاصة؛ وإنما المتصرف بكل التفاصيل هي عمتها التي زوجتها لابن أخيها صاحب المهنة الوضيعة، ولم تعترض، ولم تمانع؛ بل تزوجت بأسرع ما يمكن ومن ثم ترمّلت.

فتزوجها عبد الستار ولم يكن لها أي دور ذي تأثير في حياة عبد الستار سوى تلبية رغباته الجنسيَّة وتدبير حصة الأسرة من الطعام والشراب وقت الحصار الجائر.

وهذه الصفات التي تميزت بها زكية وحتى أمها، بل كل الإناث الموجودات ضمن العمل السردي؛ هي نفسها الصفات التي كان فرويد يصف فيها المرأة بأنّها ضعيفة وليس لها قرار مستقل بحد ذاتها، وأناتها العليا خاملة، أو بطيئة النمو، عكس الرجال في كل شيء، بل من الظلم والكارثة مساواة المرأة مع الرجل كما يرى فرويد.


العبثيَّة

لا سؤال لا جواب أو اللا سؤال واللا جواب، إذ لا معنى لأي شيء يجري ويُشاهَد ويتحرك، وإن كان لا معنى لذلك؛ فلا هدف منشودا من كل حركة أو سكون.. نقرأ في صفحة 40: (كنت أشعر بالرغبة في هذا التجوال 

العبثي).

أما بعد عثوره على كيس ممتلئ بالمجوهرات وفي داخل بيته فلم يصدم عبد الستار ولم يندهش وهذا كان في قمة العبثيّة كما في صفحة 56.

بل هو لم يكن شقياً ولا سعيداً كما نقرأ ذلك في صفحة 87.. عبثيّة كلّ شيء من حولك حتى الأخلاق والمبادئ (ماذا تعني الأخلاق القويمة، والفضيلة، والكرامة الإنسانية، والأنانية.. لإنسان يموت تدريجيًا).


الواقعيَّة

رصد التكرلي في هذا العمل تفاصيل الحياة الطبيعية لاسرة عراقيّة، ومنها انطلق ليستعرض لنا حيوات الأسر العراقيّة في تلك الفترة، أيام الحصار الظالم الذي كان يعاني منه الشعب العراقي، كما أوردها في الكثير من الصفحات، منها ص7: (استيقظت بعد العاشرة بقليل؛ وكانت الفتاتان قد تركتا البيت إلى المدرسة بعد أن دبّرت لهما زكيـة زوجتي كسرتين من الخبز اليابس تبلغتا بها مع قدح من الشاي دون

سكر.

حرصنا أن نجعلهما تأكلان شيئاً ما  

قبل الذهاب إلى المدرسة.

لم ننسَ ذلك اليوم الذي فقدت فيه هيفاء وعيها أثناء الدرس بسبب عدم تناولها فطورا.

حدث ذلك منذ أسبوعين، أعـادها إلى البيت جمع من زميلاتها التلميذات وهن على حافة البكاء.

كانت مثل خرقة بالية لا حياة فيها).

أو في ص20: (دفعني الجوع للذهاب الى المطبخ باحثًا عما يمكن أن أجد من الطعام، وجدت حبة بطاطا مسلوقة وشريحة صغيرة من الطماطة فالتهمتها ولا أدري كيف أبدأ شتائمي وبمن).

أو بيع مكتبات من كان يعد الكتب كنزًا ثمينًا كما في ص41.. (بعت بسهولة الكتب الدينية وكتب التفاسير القرآنية وكتب البلاغة العربية والقواميس وبعض المؤلفات الفكرية.

كم كان دورها عظيمًا في إنقاذنا من جوع مكين).

وهكذا استطاع التكرلي أن يصفَ لنا أدق تفاصيل المعاناة التي كان يعانيها الأفراد كما في ص66، حيث يطلب وسادة (مخدة) زائدة لينام فلا يجدها.

كان السرد بصوت الراوي المشترك في الأحداث وهو صوت عبد الستار نفسه يلقيه على شخص مجهول لم نعلم ماهيته ولم يحدثنا عنه الكاتب، ثم انتقل إلى صوت الراوي العليم من صفحة 44 وإلى نهاية الرواية. 

كانت رحلة نفسية عبثية واقعية بامتياز مع رائد الرواية العراقية فؤاد 

التكرلي.