أثناء الكتابة كيف تُجَسَّدُ قضيَّةٌ ما في عمل إبداعي؟

ثقافة 2023/03/11
...

 قحطان جاسم جواد


دائما ما تشغل بال الكاتب (سواء كان شاعراً أم قاصا أم روائيا) قضية محوريَّة تستحوذ على اهتمامه وتقوده باتجاه تجسيدها.. وقد تكون قضية واحدة رئيسة وتتفرع منها قضايا أخرى وربما لا.. ووجدناها لدى كافكا حين ظل يطارد ابطاله الخوف من القوى المجهولة، ولدى كازانتزاكي بحيث ظل الصراع لديه بين الافكار المجردة والحياة بقوة زخمها، ودستوفسكي الذي ظل يطارد الجريمة في رواياته. فيا ترى كيف الحال لدى الأدباء العراقيين من الشعراء أو كتاب القصة والرواية. ما القضية التي تستحوذ على اهتمامهم لتجسيدها في عمل ادبي؟

وقال الروائي شاكر نوري: هناك قول مأثور يقول إن الكاتب لا يكتب سوى كتاب واحد حتى لو كتب عشرات الكتب لأنه سيركز على الثيمة نفسها. هناك كتاب كتبوا بالفعل كتابا واحدا، مثل جيمس جويس في (يوليسيس) و مارسيل بروست في (البحث عن الزمن الضائع) وخوان رولفو في (بيدرو برامو) و روبرت موزيل في (رجل بلا صفات)..  من الطبيعي أن يعمل الكاتب على فكرة واحدة ويجسدها في أعمال متعددة. وهنا نتحدث عن الروائي او القاص الذي لديه مشروع روائي يعمل عليه..  

وأضاف: بالنسبة لي حاولت أن اربط بين التاريخ والمخيلة كما في رواياتي الثلاث (مجانين بوكا) و(خاتون بغداد)، وقريبا (الطاعون يا بغداد الطاعون).. انها التخييل التاريخي الذي لا يعتبر التاريخ مادة جامدة بل رؤيتها المستقبلية. هكذا كل كاتب ادبه كما تفضلتم بالسؤال له عالمه. عالمي هو العراق لم أخرج منه أبدا إنني مسكون بتاريخه العظيم لان العراق هو الكون..  فكرة الاغتراب والموت تلعبان في ذاكرتي.. اغتراب الإنسان عن حياته وواقعه. 

وأشار إلى أن القضية التي تشغل بالي في رواياتي كلها هَو مصير الإنسان.. مصيره في نافذة العنكبوت) او اغترابه في البحث عن الأب في (نزوة الموتى).. إن تعميق الفكرة الواحدة من شأنه ان يركز بصمة الكاتب لأنه لا يستطيع أن يغوص في جميع الأفكار والموضوعات؛ لذلك الموضوع الواحد ولو بإيقاعات مختلفة يمنح الروائي او القاص هويته...  نحن نكتب ذواتنا في نهاية المطاف اي الذات تصبح موضوعا والموضوع يصبح ذاتا.  

وقال إن: مشكلات العراق تختلف عن مشكلات العالم العربي كله لأن تاريخه ارتبط بالعنف لذلك نحن نكتب تراجيديات.. ثم إن غرق الناس في الأوهام والتخاريف جعل مهمة الكاتب أكثر عسرا لأن الوعي هو شرط آخر للإبداع لا يمكن أن تكتب وحدك.. لذلك نرى ان المهمة كبيرة أمام الروائي او الكاتب.  يجد الروائي نفسه في خضم المعارك اليومية..  بدلا من المعارك الوجودية.

أما القاص والروائي شوقي كريم حسن فتوسع في الأمر وتحدث عن أهم الأسس التي تدفع كائنا محاصرا لأن يكتب ويبث ما في عقله بين الناس، الكتاب ساحر مجنون، والكلمات شياطين تتقن لعبة الغش. قائلاً إن: الافتراض الأول هو الكتاب الاول الذي انتجته الانسانية هو الاب الشرعي الوحيد لكل الافكار التي دونها الكتاب عبر التاريخ.. يظل هو الاصل والمرجع الحقيقي الوحيد، فيما تقف الافكار الاتية فيما بعد عند هوامش وجوده، بينما الافتراض الاخر في الكاتب تسحره الفكرة الكتابية الاولى التي ربما عثر عليها صدفة في مكان ما. فصرخ وجدتها، ليبحث فيما بعد عن معماريها، وهذه الفكرة تظل محاصرة للكاتب وكلما حاول الخلاص منها أعطته قبس ضوء ليكرر التجربة، وكذا تتشظى الافكار وان لبست عديد الثياب، الكتابة بمجملها المعرفي تستند الى امرين مهمين انسانيين هما الخير والشر، دلني على كتاب واحد خرج عن هذا الامر؟

أما الافتراض التأملي فهو أن الكتابة، فعل ثابت انتجته الإنسانية بأفعال متشابهة ومكرره، الامر الذي يجب ان ننظر اليه، هو البناء المتجدد أبدا، كاتب سيأتي بعد قرن سيتحدث عن ذات الموضوعات التي تحدث عنها دستوفسكي وبلزاك وفلوبير، وتشيخوف، وتوماس مان، الافكار واحدة، والصالح منها ذاك الذي يقدم ضمن بناءات مغايرة. والأخير هو افتراض المعنى الذي أشار إلى أنه الهاجس والخوف والقلق. 

من جهته، قال القاص كاظم حسوني، إن: الكاتب مهما تعددت كتبه يظل طوال حياته يشتغل بدأب لتجسيد فكرة واحدة، ونجد ان كل منهم تعذبه وتأسره قضية واحدة متجددة؟ يحاول أن يعيد اكتشافها، واكتشاف الأشياء هنا حولها، من دون ان تفقد طاقاتها في الحضور لديه بأحكام الصنعة وجمال الفكرة تأخذ ألواناً مختلفة وابعاداً عدة في مؤلفاته المتعددة، رغم انه يلجأ للتمويه عليها بأقنعة السرد، واشكال الصياغة المعمارية؛ لكن بوسعنا عند التمعن إبصار ماهية الصورة، وسماع بوح الكاتب بجوانب منها في هذا المنجز او ذاك من كتبه، مثلما تتضح للقارئ رغبة المؤلف في اعادة صياغة الفكرة ذاتها، او جزء منها في كل اصدار جديد له!! من دون أن يتعب أو يكف، كما لو أن هوسا ذاتيا، او عقدة مهيمنة يصعب التحرر منها تكبله وتغويه. فهذا كافكا ظل يطارد ابطاله الخوف من القوى المجهولة. وهذا كازانتزاكي لا ينتهي الصراع لديه بين الافكار المجردة والحياة بقوة زخمها. وكذلك دستوفسكي لا تفارق الجريمة رواياته. فماذا بشأن شعرائنا وروائيينا وكتاب القصة العراقيين.. ماذا يشغل بالهم من قضية يحاولون تجسيدها دائما.

وتعتقد القاصة بثينة الناصري أن الاستاذ المحاور يقول (ان الكاتب مهما تعددت كتبه يظل طوال حياته يشتغل بدأب لتجسيد فكرة واحدة) إذا كان الأمر كذلك فما كان يعنيني منذ بدء كتابتي للقصص هو فعلا فكرة واحدة هي (التقاط اللحظة) لحظة حياة أو موت، فرح أو حزن، استعباد أو حرية، حب أو كراهية، نجاح او فشل في حياة الكائن الحي سواء كان بشرا او حيوانا او جمادا (عندي قصص ابطالها: كلب- حصان- قلم - حذاء- مانيكان). لكن محتوى وفكرة كل قصة تختلف عن الأخرى. كتبت عن: الوحدة – الوهم – استغلال البشر- الفراق- اللقاء- العودة من الاسر- الذهاب الى الحرب - دورة الحياة والموت- السفر- حب بالرسائل- البحث عن سبق صحفي - وغيرها كثير، حيث لا تتشابه قصتان. لا أكرر نفسي مطلقا فالحياة في حركة وتجديد مستمرين. ونحن لا نعيش اللحظة نفسها مرتين.

في حين أكد الروائي ضياء الخالدي أنَّ الأمر يتعلق برؤية الكاتب، وكلما كانت سليمة في إدراك حقيقة القضايا الكبرى التي شغلت الإنسان منذ عصور التاريخ وحتى اليوم، كان الأكثر قدرة على إدامة زخم الأسئلة لديه. تبدو الأفكار هنا وليدة مجالها الخاص الذي يعطيها النمو في الكتابة، والقدرة على الاكتشاف في كل عمل جديد 

مثلاً، فكرة أننا نحيا في عالم سيبقى بعد مماتنا مهيمنة على الذات، وهي تبصر حياة ملايين البشر في الماضي، ثم تبصر نفسها في عالم اليوم الذي سينتهي بزوالها. هشاشة هذا الوضع تضع الكاتب / الإنسان الحساس في دائرة يراها غاية الغايات، لأنه يشعر بزخم تأثيراتها، وكلما مضى الزمن برفقة التجارب والقراءات والتأملات يدخل إلى عمق الفكرة ويرى ما لم يكن يراه سابقاً. الرؤية تتجدد في القضية نفسها، ولذلك لا وجود للتكرار. هكذا أعتقد.