وباء العسكر !

الصفحة الاخيرة 2019/04/13
...

 جواد علي كسّار
المحتوى ونبرة الصوت وأسلوب الأداء مشفوعة بلغة الجسد، جاءت تؤكد تعالي نائب البشير ووزير الدفاع باحتجاجات السودانيين وازدرائه المتظاهرين، وكأن السودانيين قطعة حلوى صغيرة يمضغها هذا العسكري، كما كان يمضغ الكلمات في بيانه، أو أن السودان قطعة نقدية صغيرة يقلبها كيف يشاء، وينقلها من جيبه هذا إلى جيبه ذاك!
هو وباء العسكر؛ هذا الوباء الذي كلّف العالم العربي قرناً من الزمان ضاع من عمر نهضته، بالانقلابات العسكرية والبيان رقم واحد، تحت مسميات جوفاء فارغة، من «ثورة» إلى «ثورة بيضاء»، إلى «حركة تصحيحية» وهكذا!
خلال قرن من الزمان أو أقلّ قليلاً، شهد العالم العربي بحسب بعض الإحصاءات (123) انقلاباً عسكرياً، نجح منها (39) وفشل (84). ومن سوء التقادير، كان بلدنا العراق هو المؤسس لهذه الثقافة الهوجاء في الحياة السياسية، عندما نجح قائد الفرقة الثانية بكر صدقي سنة 1936م، بتغيير حكومة ياسين الهاشمي بتهديد العسكر، قبل أن تتم تصفيته وقتله سنة
1937م.
ثمّ جاءت بعده حركة مايس 1941م بتدخل مباشر من الضباط الأربعة، لحماية رشيد عالي الكيلاني، قبل أن تُسلّم بغداد راية الانقلاب العسكرية إلى دمشق!
بلغة الأرقام، حازت سورياً أكبر عدد من الانقلابات العسكرية التي بلغت (34) انقلاباً، الناجح منها تسعة، بدأت بإنقلاب حسني الزعيم عام 1949م، وراحت تتوالى بصيغة «الانقلاب على الإنقلاب»، بلوغاً إلى انقلاب حافظ الأسد على صلاح جديد عام
1970م.
في مصر كان هناك انقلاب 1952م، ثم انقلاب الضابط عبد الناصر على الضابط محمد نجيب عام 1954م، وفي الجزائر انقلاب الضابط هواري بومَدْيَن على رئيسه أحمد بن بلا، وفي ليبيا انقلاب الضابط معمر القذافي على العائلة السنوسية، وفي السودان انقلاب الضابط جعفر النميري عام 1969م، وفي اليمن شهد الجيش حركة انقلابية فاشلة ضدّ الضابط علي عبد الصالح عام 1978م، بعد مقتل رئيسيْن في احتراب دموي شهده البلد، بين شطري اليمن وهكذا.
زحف هذا الوباء العسكري على السياسة والسلطة والثروة في عالمنا العربي، يأتي في طليعة الأسباب التي عطّلت نموّ الحياة المدنية وازدهارها في بلادنا، ومن ثمّ أدّى إلى تعطّل التنمية الاقتصادية، وحال دون تفتح الحياة السياسية على قيم التعددية، وأخذ بيد الدولة من المدنية والمؤسسية والاختصاص، إلى سلطة العسكر، هذه السلطة التي جرّت بلادنا إلى استقطابات المناطقية والعشائرية والطائفية والقبائلية، ثمّ الحروب والعسكرة، والإدارة الأمنية للعباد والبلاد، قبل أن تترك البلاد خراباً، منهوكة السيادة، بحيث تحتاج إلى عقود من العمل لإعادة بناء ما دمرته أنظمة العسكر.
واحدة من أعظم منجزات الغرب خلال العقود الأخيرة، تجميد العسكر وعزلهم عن التدخل بالسياسة، لأنهم أدركوا أن فوضى المدنية أفضل بكلّ مساوئها، من «بساطيل» العسكر ووبائهم!