الحراكُ الروائيّ

ثقافة 2023/03/12
...

 محمد صابر عبيد


يندرج الحراك الروائيّ في جوهر الفعاليّة الإجرائيّة السردية على مستوى عمل عناصر التشكيل النصيّ الأساسيّة، وينتِجُ هذا الحراك جملة من الآليّات التي يكون بوسعها تحقيق أعلى درجات التكامل والصيرورة السردية في النصِّ الروائيّ، وبوسعها أن تكون المعيار المركزي لقياس جرأة الرواية ومغامرتها، وقدرتها على تشكيل خطاب سردي متكامل وحيوي يتحدى مجتمع التلقي، ويجمع خيوطه ونسيجه من طبيعة الصنعة الروائيَّة الخاصة، واللغة الروائيَّة القادرة على تمثيل الصنعة وتشغيلها بأعلى كفاءة ممكنة.


تندرج تحت آليّاتِ الحراكِ الروائيّ مفاصل مركزيَّة مثيرة تتلاحم وتتعاضد وتتفاعل أفقيّاً وعموديّاً لإيصال هذا الحراك إلى قمّته، لعل من أبرزها: “الفضاءُ، الصنعةُ، الموروثُ”، استقطبتْ أعمالها وأنشطتها من وحي الكيان الموضوعاتيّ لسلسلة من الروايات التي امتدّت إليها يدُ القراءة في العقود الأخيرة، وغاصت في جواهرها الحكائيّة بوساطة اقتراح شبكة من المصطلحات الإجرائيَّة التي ينبغي أن تستجيب للواقعة القرائيّة على نحوٍ مُنتِج، وترصد الأحوالَ الحكائية لمجموعة كبيرة من هذه الروايات بما يحقّق فحصاً دقيقاً لنوع “الراوي” وقد يظهر أحياناً بصورة “الراوي المثلّث”، وهو مصطلح مُقترَح للجواب على سؤال العلاقة بين المؤلّف الحقيقيّ والراوي الذاتيّ والشخصيّة، أو مصطلح “الراوي الذاتيّ كليّ العلم” وهو مصطلح يجمع بين آليّات الراوي الذاتيّ والراوي الموضوعيّ، حين يتنكّب الراوي الذاتيّ جزءاً من المهام السرديّة التي يقوم بها الراوي الموضوعيّ “كليّ العلم”، ثمّ مصطلح “القرين السرديّ” وهو يبتغي فتح مجال اصطلاحيّ جديد في الحراك التشكيليّ للشخصيّة الروائيّة على النحو الذي يرصد فيه القارئ هذه الأنماط من طبقات الراوي بدقة.

يمكن في هذا الإطار معاينة مصطلحات أخرى مثل مصطلح “السرد والسرد المضادّ” لتفحصَ حساسيّة اللغة الروائيّة ودورها في إنعاش الروح السرديّة داخل النصّ، فثمّة سرد أساس يمكن أن يمثّل العمود الفقريّ للرواية؛ ولا حياة للرواية من دونه، وثمّة “سرد مضاد” يتحرّك على محيط الدائرة السرديّة ويسعى إلى تموينها بعناصر تشكيل سردية جديدة، منها ما يثري السرد الأساس ويغني حراكه ويخصّب أدواته ويحقّق درجة عالية من التماسك النصيّ، ومنها ما تتراكم فيه الثرثرة بغير حساب فلا يؤدي وظائف واضحة، بل ربّما يعمل نشاطاً سردياً عكسياً في الإخلال بالمعادلة النصيّة، وفتح السبيل لإشاعة صورٍ فائضة لزياداتٍ واستطالاتٍ تربكُ عملَ السرد وتخلخلُ قوانينه وقواعد عمله.

إنّ العلاقة الضمنيّة بين الفضاء والصنعة والموروث هي علاقة جدليّة فيما يتعلّق بالسرد الروائيّ على وجه العموم، ولا بدّ من وعيها على النحو المطلوب لإدراك قيمة الحراك الروائيّ على أساس نهوض فكرة التشكيل وتجوهرها وقيامها، وهي فكرة مستمدّة من فضاءات الفنون الأخرى المجاورة لفنّ السرد من جهة، وهي من جهة أخرى تشتغل بوصفها بديلاً لمصطلح “البنية” الذي يحيل على مناهج بعينها ينبغي الالتزام العام بها، على النحو الذي يغيّب الطبقة الموضوعاتيّة التي يتجلّى فيها الموروث كأحد مستوياتها الفاعلة في الميدان الروائيّ.

تبقى الرواية مجالاً رحباً للقراءة والتداول واجتراح المصطلحات حول قضاياها بوصفها الفنّ السرديّ الأكثر استجابة للتجريب والتعدّد والتنوّع، والتداول أيضاً، ففي كلّ رواية متميّزة ثمّة مفاتيح نقديّة لقراءة مغايرة بوسعها أن تقدّم رؤية جديدة حين يكون القارئ متمكناً من المعرفة والمغامرة معاً، فلا التمكّن النقديّ وحده قادر على إنجاز قراءة نوعيّة تنطوي على إضافات حقيقيّة للمدوّنة النقديّة الروائيّة، ولا المغامرة وحدها يسعها أن تدرك هذه المهمّة الصعبة، فلا بدّ منهما معاً للدخول القرائيّ النقديّ الباسل في ميدان النصّ الروائيّ الحديث، وتفكيكه برؤية عارفة تختزن كثيراً من طاقة اللعب والإدهاش والحريّة لبلوغ المقولة المركزية التي تشتغل عليها

الرواية.

لا يكتفي مصطلح “الحراك الروائيّ” بالنظر في ميدان أنواع الحراك القائمة على حركة الأفعال السردية والمشاهد السردية والشخصيات السردية، فهذه الأنواع يتجلّى حراكها السرديّ واضحاً في سياق تعاقب الأحداث وتسلسلها وتفاعلها وتطوّرها داخل المنظومة السرديّة العامّة للرواية، بل يجب رصد ظواهر حركيّة أخرى ذات طبيعة فكريّة وفلسفيّة مضمَرة لا يمكن التقاطها بسهولة، مثل حراك الفضاء والصنعة والموروث بوصفها كيانات لا يمكن لها أن تترك آثاراً بعينها يسهل رصدها بسهولة.

يتطلّب حراك الفضاء الإمساك بعناصره الأساسية من زمن ومكان ورؤية لضبط النسيج الداخليّ المهيمن على وحدة الفضاء، فحركة الزمن تجري بمعية حركة المكان وحركة الرؤية ضمن حالة من التجانس تسهم في تشكيل الفضاء، وهي حركات لا تجري على السطح السرديّ للعمل الروائيّ إنّما تغوص في باطن الأحداث وطبقاتها الجوانيّة العميقة، وتستدعي وعياً خاصاً لمتابعتها والمضي معها لكشف النظام الحركيّ الذي تعتمده للتوافق مع طبيعة كلّ عنصر من عناصرها.

أمّا حراك الصنعة الروائيّة فيقوم أساساً على وعي آليّات العمل السرديّ وعياً يتحرّك خارج الموضوع من جهة، وخارج الحساسيّة السرديّة الحاملة لشبكة العواطف والمشاعر والانفعالات المتعدّدة التي تموّن النصّ الروائيّ بما يحتاج منها، فهو حراك منطقيّ يتحرّى أعلى مراحل الإدراك والمعرفة والخبرة والإحاطة بمجمل العمليّة السردية داخل الكيان الروائيّ العام، في حين ينطلق حراك الموروث بأشكاله وأنماطه وتجلّياته جميعاً من منطقة خلفيّة تمثّل مرجعيّة أساسيّة من مرجعيات التشكيل الروائيّ، وهو حراك يقوم على نظام خاصّ على وفق معادلة شديدة الانضباط لا زيادة فيها ولا نقصان، لأنّ أيّ خلل يمكن أن يتبدّى في حراكها سيؤثّر سلبياً على الكيان العام للحراك السرديّ في الرواية.