الحل الأمثل.. التشجير وفق أسس علمية

ريبورتاج 2023/03/12
...

   مينا القيسي


لا يزال الحاج محسن كريم البالغ من العمر 64 عاما متألما من مضاعفات إصابته بالتهاب الجهاز التنفسي الحاد، عندما غصت بغداد بما يزيد عن تسع عواصف ترابية خلال أشهر الصيف الماضية، تحديدا شهري نيسان وآيار، لونت سماءها بالصبغة البرتقالية الكثيفة، وعطلت سير الحياة اليومية، وأغلقت المؤسسات والمدارس أبوابها، ودخل بموجبها أكثر من خمسمئة شخص المستشفى لتلقي العلاج، من ضمنهم محسن، الذي كان قد نجا من الاختناق بأعجوبة.



تعددت الأسباب التي ساهمت بتشكيل التدهور البيئي في العراق ككل، وبغداد على وجه الخصوص، وهي نفسها التي وضعت العراق في مصافي الدول الأكثر تأثراً بأزمة التغير المناخي العالمية. فعلى الرغم من كمية الأمطار، التي هطلت في موسم الشتاء الحالي، إلا أن جفاف الصيف الماضي وارتفاع الحرارة بأكثر من 50 درجة مئوية، شكلا خطراً وتهديداً شديد اللهجة، تجاه واقع البلاد البيئي بعد سنوات قليلة بدءاً من الآن.

ويتفق خبراء في مجال البيئة، على أن غياب الغطاء النباتي أو ما يسمى بالحزام الأخضر، في أي مدينة، هو أحد أهم الأسباب الرئيسة لحصول العواصف الترابية، التي تتوالى أسبوعيًا إن لم يكن يوميا، ووفقا لهؤلاء الخبراء فإن بغداد تعاني من تدهور شبه تام لغطائها النباتي، الذي لم يشهد طوال سنوات أية خطوات جادة لإعادة انشائه أو تأهيل ما تبقى منه منذ سبعينات وثمانينات القرن الماضي، وإن كانت هنالك مبادرات فهي لا تزيد عن كونها محاولات فقيرة لم تأتِ بنتيجة حقيقية.


التضخم السكاني

المتحدث باسم وزارة البيئة العراقية أمير علي الحسون، يعزو أساس المشكلة إلى التوسع العمراني على حساب الأراضي الزراعية، نتيجة الفوضى التي تسود البنى التحتية للعاصمة، فيقول:

هنالك ارتباط  وثيق بين البنى التحتية لأي بلد وبين بيئته، عندما يغيب الانسجام في ما بينهما ستكون النتيجة هي التدهور الذي نعيشه اليوم، والدولة هي المسؤولة عن صنع هذا التوافق".

مضيفا يسكن في بغداد أكثر من 9 ملايين نسمة، في ظل بنى تحتية قديمة، لم تشهد تطورا نسبيا يجعلها تتحمل هذا العدد الكبير، حتى أنها لم تضع احتمالية تعاظم ظاهرة البناء الفوقي، الذي تجاوز الحدود المرسومة ضمن الماستر بلان - الخطة الرئيسة للسكن، واستشرى حتى وصل الأراضي الزراعية غير السكنية، التي يفترض أنها مخصصة لمشاريع الأحزمة الخضراء.

مشيرا ايضا إلى أن "وزارتي البيئة والزراعة ، لطالما شكّلتا لجانا تتكون من حكومات محلية لوضع خطط استثمارية زراعية، لكن هناك دائمًا ظروفا معينة تحول دون تنفيذها، بسبب اصطدام هذه الخطط بواقع استملاك الأراضي الزراعية من قبل جهات متنفذة وقطاعات خاصة.

ويؤكد حسون، أن عام 2023 هو للعمل الجاد من أجل التصدي للتغيرات المناخية، كون وزارة البيئة تتولى تنفيذ خطة) التكيف البيئية (الخاصة بالتغيرات المناخية، والتي تشمل إنشاء أحزمة خضراء جديدة حول العاصمة بغداد، حيث تم إطلاقها والمصادقة عليها من قبل مجلس الوزراء، وأن جميع وزارات الحكومة ملزمة بتنفيذها كلا حسب دوره، وبدعم من الأمم المتحدة، التي تعدُّ الطرف المساعد للاتفاقات الدولية بخصوص تدعيم القدرات المحلية والمؤسسات البيئية.


حملاتٌ غير مدروسة

ويعلل الخبير والناشط البيئي احمد صالح نعمة الفقدان الكبير للأحزمة الخضراء في العاصمة بغداد، لاسيما في منطقة ابو غريب - الطريق القديم، قائلا:

"تسببت الحرب على العراق ابان الحقبة التسعينية بقلة حصول الأفراد على حصتهم من الوقود، وأصبحت المنازل في مواسم الشتاء خالية من الغاز والنفط، فاضطر السكان آنذاك للجوء إلى قطع الأشجار بشكل كبير، ثم تحويلها إلى حطب من أجل الطبخ والتدفئة".

وبرأي نعمة، فإن حملات التشجير التطوعية التي حصلت طوال السنين من قبل المنظمات والنشطاء البيئيين هي غير مدروسة، ودائما ما تبوء بالفشل، نتيجة غياب الأفراد ذوي التخصص الدقيق، الذي من شأنه الاختيار الصحيح لنوعيات الأشجار والمزروعات القادرة على تحمل ظروف البيئة القاسية التي تمتاز بها المدينة، والاطلاع بشكل علمي على طرق الزراعة والإدامة والعناية".

وينوه خبير الستراتيجيات البيئية رمضان حمزة بأن الرياح التي تجلب العواصف الترابية تقسم إلى قسمين، عواصف داخلية وخارجية تأتي من الصحراء الموريتانية، ومن صحارى السعودية والكويت، فضلا عن الصحراء الداخلية المنتشرة في الغرب والغرب الجنوبي من العراق".

مبينا أن العاصمة بغداد كانت محاطة ببساتين نخيل كبيرة، خاصة في منطقة الدورة جنوبا، لكن جرى تجريفها منذ سنوات عدة، من دون معرفة الأسباب الحقيقية".


التشجير 

ابتكرت التدريسية في كلية الزراعة بقسم التصحر في جامعة بغداد الدكتورة آفاق ابراهيم جمعة مشروع زراعي في عموم أنحاء العراق للتقليل من التصحر الحاصل في البلاد.

وتقول عن هذا المشروع:

"إن النطاقات الصحراوية في العراق عددها سبعة، وهي تمتد من الشمال الغربي وإلى الجنوب الشرقي والغربي، وهي ليست صحراء إنما تصحرت، أي أن كل منطقة متصحرة يمكن معالجتها وإرجاعها كما كانت عليه في الأول، لكن على الجهات المسؤولة أن تتكاتف وتتعاون في ما بينها، لأن النتيجة التي نتطلع اليها تتطلب جهد دولة".

وتتابع لقد انشأت منذ عام 2016 مشروعاً زراعيا باسم "زراعة مليون شجرة" قدمته كمقترح إلى وزارة التعليم العالي في وقتها وتمت الموافقة عليه، والمباشرة في تنفيذه بعدما رسمنا له خارطة طريق، مبنية على أسس علمية وقاعدة تعتبر الأساس والبنيان لانطلاقات اخرى. حيث قام المشروع باستقطاب 22 جامعة عراقية و 40 بلدية و 19 اعدادية زراعة، إضافة إلى الأقسام الزراعية بالعتبات الحسينية والعلوية وبلديات امانة بغداد، بمساندة الوزارات المعنية بدعم المشروع كالزراعة والبيئة والتخطيط والمواردالمائية".

لافتة إلى أنه من خلال المشروع قمنا بالتعريف عن 115 نوعا من الاشجار والشجيرات، التي تلائم مناخ العراق، التي تم اختيارها من قبل مختصي علوم الغابات والتربة والموارد المائية والمناخ لتهيئة مشاريع تشجير ناجحة في البلاد".

موضحة لقد جاء مشروعنا من منطلق حماية الأمن الغذائي من التهديد، الذي يحاصره نتيجة التأثيرات البيئية، ويجدر الإشارة إلى ضرورة المبادرة بالزرع في كل مكان، في أمكنة العمل أو حديقة المنزل، أي بمعنى أن يبدأ الفرد من نفسه، لكن ألا يتم الزرع بطريقة عشوائية، إنما يجب الاستعانة بمختصين لمعرفة الأنواع الملائمة، التي تتكيف وتعيش في بيئة العراق".

مبينة أن النخل والسدر والزيتون والتوت والتين وغيرها، هي أشجار ملائمة يجب التركيز على زراعتها داخل المدن لأنها تتحمل الظروف القاسية، حتى لا يذهب مياه السقي هدراً".

وتتابع: "خططنا المستقبلية هي انشاء حديقة نباتية متميزة في كل محافظة من محافظات العراق، وبموازاتها يجب أن تعطى الفرصة للمهندسين الزراعيين وتسليمهم أراضي زراعية ودعمهم وتشجيعهم على زراعتها وتزويدهم بالأسس العلمية لذلك، كي تكون هذه الحديقة بمثابة الساحة العلمية لغرض التجربة والتدريس، ولتكون أيضا رئة للمدينة ومنطقة جمالية".


وتكمل قولها:

"إن العراق الأكثر هشاشة تجاه تأثيرات المناخ، والحل الواعد أمامنا هو التشجير بأسس علمية للعبور إلى أمن مستدام، ومن الجدير بالذكر أن هنالك تمويلا دوليا كبيرا بشأن التشجير، لأنه حلٌ مثالي للحد من مشكلة التصحر؛ ونحن على المستوى الخاص في العراق نطمح أن يتحول مشروعنا إلى مليار شجرة، بعد ما استطعنا زراعة مليون وخمسمئة ألف شجرة في البلاد".