{الحمض النووي للكرامة}.. قسوة الواقع وتشظيات الخيال

ثقافة 2023/03/13
...

  عدنان حسين أحمد

 

ينتقي المخرج السويسري جان بومغارتنر عناوين أفلامه الوثائقية من المنطقة الرمادية التي تجمع بين الحقيقة الصادمة والمجاز العميق الذي يفتح كوّة للخيال المجنّح الذي ينطلق في الأعم الأغلب من نتوء واقعي. 

وفيلم "الحمض النووي للكرامة" من هذا النمط الذي يتأرجح بين قسوة الواقع وتشظيات الخيال الجريح الذي يدفع المرء للقبول بفداحة الفقد والخسران.

ولا بد للمتلقي الذي يُشاهد اللقطات الافتتاحية الأساسية لهذا الفيلم الذي يحرّك المشاعر الإنسانية المُرهفة أن يتأثر بعمق، ويشعر بحجم اللوعة التي يعاني منها أهالي الضحايا الذين فُقدوا في حرب البلقان بين عامي 1991و 1999م ولم يعثروا على رفاتهم أو بعضاً من عظامهم المتبقية التي طمرتها الحكومات المتسلطة والجماعات المسلّحة التي تعمل بوتيرة عرقية ودينية مقيتة. لم يستعمل المخرج بومغارتنر تقنية التصوير الجوي كنوعٍ من الترف والمباهاة ولكنه أراد أن يُثير لدى المتلقين سؤالاً شديد الأهمية مفاده: هل يمكن لهذه الغابات البلقانية الأخاذة أن تُخبئ بين جنباتها أسرار القتل العمد والمجازر الجماعية لتغيّب الضحايا في خاتمة المطاف بين أشجارها الباسقة وأغصانها المتشابكة التي تعيق الماشين في دروبها الضيقة وتمنعهم من اكتشاف الجرائم البشعة التي أُزهقت فيها أرواح 40.000 مواطن بلقاني كانوا يندرجون تحت تسمية يوغسلافيا سابقًا. لقد عوّم المخرجُ المكانَ ولم يُرِد أن ينسبه إلى بقعة جغرافية محددة في بلد سوف يتقسّم بعد الحرب إلى عدة بلدان تعلن انفصالها واستقلالها التام عن الاتحاد اليوغسلافي السابق. لا يخوض المخرج في الجانب السياسي أبدًا لكنه يلّمح إليه من بعيد، فحينما يرى المتلقي ضحية، فلا بد أن يحضر الجلاد أو الجاني مهما تمرّس في فن التواري والاختباء.

تتمحور قصة الفيلم حول شخصيتين أساسيتين وهما منيبة مُفتيش التي فقدت ولديها، وراميز نوكيتش الذي فقد هو الآخر والده وأخويه وظل يجوب الغابات بحثًا عنهم على أمل أن يعثر على ما تبقى من عظامهم ليدفنهم بطريقة كريمة تليق بإنسانيتهم المبجّلة. 

أما بقية الشخصيات فهي تنحصر بين علماء الأنثروبولوجيا، والطب الشرعي، وعلماء الآثار، وفريق كبير من الموظفين الصحيين الذين يعملون في تشخيص هويات الضحايا المفقودين ويجمعون شتات أقاصيصهم الممزقة والمُتناثرة في آن معًا، بعد أن يفركوا عنها الصدأ وينفضوا عنها الغُبار الذي تراكم بفعل تقادم الأشهر والأعوام. حينما هدأت أصوات المدافع، وسكتت رشقات الرصاص، وكفّت الرمانات اليدوية عن الانفجار في الشوارع والأزقة بدأت الحرب الصامتة في قلوب الأمهات المفجوعات وذاكرتهن القوية التي لا يفلت من منخلها شيء. 

فالأم منيبة التي تجاوزت الخمسين من عمرها لم تعد تتجول في الغابة التي تعشقها، ولا تبحث عن مناظرها الساحرة في ساعات الشفق والأصيل وإنما اكتفت بقراءة الكتب التي يكتظ بها طابقا المنزل. ورغم أن المخرج لم يفصح لنا عن تحصيلها العلمي إلاّ أنها شغوفة بالقراءة والثقافة في أقل تقدير. وإذا ما خرجت من المنزل فإنها لا تذهب أبعد من صالون الحلاقة، ومحال التبضع لتشتري ما تسد به رمقها اليومي. وكل الذي تنتظره هو أن تجد جثتي ولديها المفقودين وتكتب اسميهما على شاهدتي قبريهما لا غير. أما الشخصية الثانية راميز، فهو رجل خمسيني أيضًا هرب من الحرب التي اندلعت في حينه ونجا بجلده لكنه فقد ثلاثة من أفراد أسرته وظل يبحث عنهم منذ سنوات طوال من دون أن يعثر على رفاتهم، وطموحه لا يختلف عن طموح منيبة، فهو يريد أيضًا أن يرى موتاه يرقدون في قبور تظللها شواهد مرمرية ماثلة للعيان يدوّن عليها أسماءهم وتاريخ فجيعتهم في بلد توحّش فيه رجالات الدولة وفقدوا بصرهم وبصيرتهم. وإذا كانت منيبة قد استكّنت في بيتها فإنّ راميز لم يكف عن البحث وإنما كان يخرج كل يوم ويعثر على عظام أو ملابس تآكلت أطرافها، أو ساعات صدئة تعطلت بفعل الماء والتراب وعوامل الطبيعة القاسية في الغابة. 

وكان يطلب من الجهات المعنية أن تبعث له فريقًا يفحص ويدقق في العظام والملابس والحاجيات التي عثر عليها خلال النهار. لا يفرِّق راميز بين الضحايا، ولا يستطيع المرء أن يميّز بين عظام المواطن البوسني أو الصربي أو الكرواتي، فكلهم بشر في خاتمة المطاف، وعليه أن يسلّم عظامهم إلى الجهة المختصة، ويحفز الآخرين على أن يحذوا حذوه لكي يخففوا من آلام الناس المفجوعين الذين فقدوا أهلهم وذويهم وأحباءهم.

ما يلفت الانتباه في هذا الفيلم هو الطاقم الطبي والأنثروبولوجي اللذين يعملان بدأب وإخلاص واضحين من أجل الوصول إلى نتائج علمية دقيقة يصل فيها التطابق إلى نسبة 99.95 %. وقد رأينا كيف أعادوا ترتيب العظام في الحاويات المسطحة بدءًا من الجمجمة، والأسنان، وعظام الفكين، ومرورًا بالعمود الفقري، والأطراف الأربعة، وانتهاءً بأصابع اليدين والقدمين مستعينينَ بفحوصات الحمض النووي DNA التي تُوصِل الأطباء إلى نتائج تقتل الشك باليقين.

يصل المخرج، وهو كاتب السيناريو أيضًا، إلى نتيجة منطقية فلقد طلب المختصون في المختبر من الأم منيبة أن تأتي إلى المستودع وتتعرف على ملابس ابنها الأكبر، وهناك شاهدت عظامه الهشة ثم تعرفت على ملابسه وخاصة الجاكيت، وشاهدت الفيل الصغير الذي أعطته هدية لابنها الأصغر وتُنهي الفيلم بالقول المؤثر والبليغ: "الآن صار لديّ اسم على شاهدة قبر ولدي الأكبر وأتمنى أن يجدوا رفات ابني الأصغر في أقرب وقت ممكن".

أما راميز فقد عثر بنفسه على رفات 250 شخصًا من المغدورين في جولاته اليومية في الغابة لكنه، لسوء الحظ، لم يعثر على أبيه وشقيقيه المفقودين طوال سنوات بحثه المحموم. لا بد من الإشارة إلى أن بومغارتنر المولود في بازل سنة 1987م قد أنجز فيلمين وثائقيين وهما: "الصحة" و "الأرض الناطقة"، أما "الحمض النووي للكرامة" فهو فيلمه الوثائقي الطويل الأول.