وداعٌ حزين للسينما الكلاسيكيَّة

ثقافة 2023/03/13
...

الحنين إلى السينما الكلاسيكية، وذكريات الطفولة، والدهشة الأولى عند مشاهدة شخصيات الأفلام، وهي تتحرك وإن كانت صامتة- ستنطق في العام 1927- والشغف بهذا الفن الساحر، هو ثيمة أفلام حفل بها المشهد السينمائي العالمي في الأعوام الثلاثة الأخيرة، ومعظمها أفلام سيرة ذاتية، أو شبه سيرة لمخرجيها، منها: الفيلم الهندي "العرض الأخير"(2021) للمخرج بان بانين المعروف بنبشه في التاريخ الأنثروبولوجي للحضارة الهندية، مستذكراً فيه طفولته وشغفه بالسينما واقتفاء أثر الضوء الذي يتحول إلى قصص وحكايات ساحرة، بأسلوب سهل ممتنع يلمس شغاف القلب، وهو من بطولة  الفتى بهافين راباري(سماي)، و ديبين رافال(الأب)، ويهافيش شريمالي(مشغل السينما)، وباريش ميهتا(الأم)، وصوره سوابنيل سوناوان، بينما كتب السيناريو له وأنتجه المخرج نفسه.

يقتفي "العرض الأخير" الحياة السعيدة لطفولة سماي، الذي يعيش في قرية صغيرة، ضمن مقاطعة غوجارات التي كسبت شهرتها من ولادة المهاتما غاندي وكونها معقلاً للأسود البرية، يعتاش الأب البراهمي من بيع الشاي في كشك صغير في محطة قطار(وسيلتهم الوحيدة للتواصل مع محيطهم)، يقرر الأب اصطحاب أسرته لمشاهدة فيلم ديني في سينما كلاكسي العتيقة، على الرغم من مقاطعته مشاهدة الأفلام، بسبب تدينه (براهمي)، ما إن شاهد الطفل طقوس السينما، بدءاً من التزاحم على التذاكر، مروراً بالمرشد و "تورجه" المضيء، وانتهاء بحميمية الجلوس في الظلام، فضلاً عن الضوء المنبعث من مقصورة المشاهدة الذي ينعكس قصصاً وحكايات على الشاشة البيضاء، حتى استحوذت على عقله، فتسرب من مدرسته لمشاهدة أفلامه المفضلة، إذ يتعرف على مشغل "ماكنة العرض" ويعقد معه صفقة يتنازل فيها عن وجبة غدائه الشهية مقابل أن يشاهد الأفلام مجاناً في مقصورة العرض، ينقل شغفه إلى أصدقائه، فينجحون بتصنيع ماكنة عرض بسيطة، شاهدوا فيها الأفلام التي سرقوها من المخزن، لتنتهي مسراتهم الجميلة، بدخول العرض الرقمي وتحويل مكائن العرض و"بكرات السلويد" إلى المصانع، لتصبح  أقراطاً وأساور وأطواقاً ملونة، وحينما يغادر سماي إلى المدينة بعيداً عن أهله، ليدرس فيزياء الضوء يرى النساء والصبايا جذلات في القطار، فيتأمل زينتهن ويتخيل أن أصل الأسورة والأقراط، ربما فيلم لكوبريك، أو هيتشكوك، أو ساتيا جيت راي، وهي التفاتة ذكية من المخرج بان الذي استرجع ذكريات طفولته من خلال مشاهد خلابة صورها بلقطات عريضة وبانورامية، معتمداً على مصوره الأثير سوناوان، وعلى الرغم من تصويره الحياة في قريته، بعيداً عن مآسي وبؤس الشعب الهندي، إلا أنه جعلنا نتماهى مع سردياته البصرية، ربما لأنها تذكرنا بوقائع عشناها في طفولتنا، فلا أظن أن أحداً منا لم يجرب في طفولته أو فتوته التدافع للحصول على تذكرة، أو محاولتنا البريئة لتحريك الصور و"فريمات"  السلويد "النيكتف" الجامدة .

بانين الذي أهدى فيلمه لأساتذته من المخرجين الملهمين. ألقى  في "العرض الأخير" نظرة وداع حزينة على طقوس السينما ودور عرضها الباذخة.