خدماتٌ حكوميَّة علنيَّة تباع للمواطنين

ريبورتاج 2023/03/13
...

   محمد عجيل

 تصوير: خضير العتابي

لقد دب الفساد في الأرض ولم يعد هناك أي سيطرة على سلوكيات الدوائر الحكوميَّة، وأصبح المواطن في حيرة من أمره، أما الرضوخ للواقع أو اللجوء إلى الشارع، وفي كلتا الحالتين هو الخاسر، وفي واحدةٍ من صور الفساد المستشرية والعجيبة الغريبة هي أن تصبح الخدمات البلدية، تباع بمبالغ متفق عليها، إذ لا يمكن للمواطن، سواء كان قاضياً أو كاسباً أو  عاطلاً، أن يتمتع بخدمات رفع النفايات من داره ما لم يدفع ألف دينار، مقابل كل حاوية أو اشتراك شهري متفق عليه مع أصحاب الكابسات، الذين يجوبون فقط المناطق، التي تمولهم سواء بالمال أو وجبات الطعام.

يقول الدكتور كاظم عجيل من جامعة القاسم الخضراء: "نعطي ألف دينار مقابل كل حاوية ترفع من قبل العاملين، لقد كان هذا المبلغ في البداية يدفع على شكل إكرامية، لأننا ندرك مدى جهود العمال وظروفهم الصحية والمالية، لكن بمرور الوقت أصبح هذا المبلغ يدفع إجبارياً، وإلا لن نرى تلك الخدمات، وبالتالي نضطر إلى رفعها أمام ناصية الشارع، وخلال أسبوع واحد تصبح على شكل أكداس تحوم حولها الحشرات ."

بينما يشير طبيب الأسنان مازن عبد الكريم إلى أن عمال رفع النفايات يزورون عيادته باستمرار، ويطالبون بأسعار زهيدة لغرض قلع سن أو تحشيته، وفي حال عدم الرضوخ لذلك، فهو لن يرى وجوههم  أمام الدار أو العيادة، وأكد لقد بذلت قصارى جهدي كي أقنعهم بأن ما يفعلونه سحت لا يمكن تبريره، لأنهم يتسلمون رواتب جراء خدماتهم، لكن أحدهم قال لي: إن الراتب لا يكفي، وعلى أصحاب البيوت أن يدفعوا. 

إن الأمر لا يقتصر على البيوت والأهالي، وإنما شمل أيضا أصحاب المحال التجارية والمطاعم، يقول عباس فاهم الزاملي وهو صاحب مطعم سياحي:

"أضطر إلى أن أخسر يومياً "نفر كباب" أو وجبة غداء لعمال البلدية مقابل أن يرفعوا النفايات من أمام المطعم، وفي حال عدم تقديم ذلك، فلا أجد منهم سوى السلام عبر المنبهات، إنهم يقولون لي "ادفع حتى لا نقطع" .

لم يقتصر ما نعرضه من أساليب التعامل مع الخدمات الحكومية على الدوائر البلدية، بل وصل إلى جميع المفاصل الحكومية، ففي المستشفيات وخاصة عند صالات الولادة ورغم المرتبات العالية، التي يتمتع بها موظفو القطاع الصحي، إلا أن الكثير منهم يدفعون المواطن إلى دفع "البقشيش" الإجباري مقابل تحسين الأداء داخل الصالات من اهتمام بالمريضة ووليدها، وغيرها من الخدمات الصحية.

تقول الحاجة رابعة محمد: اضطررت أن أدفع إلى إحدى المعينات مبلغ عشرة آلاف دينار قبل دخول ابنتي إلى صالة الولادة، ثم طالبتني أخرى بمبلغ خمسة وعشرين ألف دينار، وكل هذه الأموال من أجل الاعتناء بابنتي.

يقول الباحث في علم الاجتماع الدكتور عبد الرزاق محمد جبار: "إن هذه الظواهر ليست وليدة العهد الجديد، وإنما من نتائج الظروف القاسية، التي كان يعيش فيها العراقيون إبان العقد التسعيني، وكان الجميع يحتاجون إلى توفير قوت يومهم، بسبب ضعف المرتبات آنذاك، كما أنها وليدة الحروب التي تعرض لها العراق، والتي استهدفت تمزيق نسيج المجتمع العراقي"، موضحاً أن محاربة هذه الظواهر تقع على عاتق الجميع، بدءاً بالأسرة ومروراً بالمدرسة وانتهاء بالمسجد، إذ علينا أن نستعيد القيم العراقية الأصيلة، التي تحرم الرشوة وتحارب العادات الضارة، وأرى من الضروري جداً وضع منهاج في المراحل الابتدائية يهدف إلى إرشاد الجيل الجديد للطريق الصحيح، ولا بد أيضاً من تفعيل العقوبات في القانون العراقي" .

ويرفض مدير القطاع الصحي في قضاء الهاشمية الدكتور عبد الرحيم مخيف، أن تكون ظاهرة "البقشيش" التي تحدث بالمستشفيات لها علاقة بالسلوك العام للقطاع الصحي وقال: إنَّ هناك نفوساً دنيئة تعلمت على السحت، ووجدت فيه راحة نفسية على حساب المراجع وتساءل ماذا يفعل المسؤول؟ لقد وضعنا كاميرات للمراقبة ووضعنا أرقام هواتف للشكاوى، ونحن نتابع يومياً وننتظر من المواطن أن يتعاون معنا للقضاء على مثل هذه السلوكيات المشينة، التي لا ترتبط بقيم ولا أعراف.


"بوزرجية" محطات الوقود 

من جهته رفض منير المعموري من شعبة إعلام دائرة المشتقات النفطية في بابل، أي اتهامات توجه إلى العاملين في محطات الوقود الحكومية وقال:

"إن ظاهرة "البقشيش" الإلزامي مختفية تماماً عن المحطات التابعة لوزارة النفط، وإذا كان يحدث ذلك فإنه يحدث في الأهلية، ولدينا أرقام هواتف موجودة في كل محطة، نطلب فيها من المواطن أن يبلغنا عن اي ابتزاز يحصل، سواء من قبل صاحب المحطة أو "البوزرجي"، وقد تصل العقوبات إلى إغلاق المحطة وسحب الرخص"، وأوضح المعموري أن هذه الظاهرة ما كانت لتصبح وسيلة للكسب غير المشروع، لولا تعاون المواطن الذي يعطي الإكراميات، تحت باب المساعدة الإنسانية.

مشيراً إلى أن الأمر وصل إلى اقتطاع لتر من البنزين أو الكاز من قبل "البوزرجية" في حال عدم دفع ذلك من قبل المواطنين، ولذلك يقول المعموري:"من خلالكم نهيب بالجميع من أجل التعاون معنا، للقضاء على هذه الأساليب الرخيصة طالما أن الموظف يتقاضى راتباً من المحطات".

وانتقل "البقشيش" الإلزامي إلى الدوائر ذات المرتبات العالية، مثل وزارة الكهرباء، إذ لا تحضر الفرق الجوالة، من أجل تصليح العطلات الطارئة، سواء في البيوت أو في أعمدة الشوارع، إلا بعد دفع المقسوم، وفي هذا الصدد يذكر المواطن حسين كاظم في يوم من الأيام تعرض التيار الكهربائي، في داري إلى العطل واتصلت وقتها بدائرة الكهرباء، وبعد ساعة تقريباً حضر فريق جوال من الفنيين، وقاموا بالفحص وأبلغني أحدهم عن وجود عطب يستوجب تبديل جهاز، وسرعان ما أخرجه من جيبه وعرضه عليَّ مقابل مبلغ هو ضعف ما موجود في السوق، ووقتها وافقت من أجل استعادة التيار الكهربائي، في حين يقول مواطن آخر فضل عدم الكشف عن اسمه:

"لقد طلب مني فريق جوال مبلغاً مقابل اصلاح خلل في العمود الكهربائي، وحينما أبلغتهم بعدم وجود المبلغ قالوا لي أجمعه من الشارع وهنا أسال هل إن مبالغ الاشتراك التي ندفعها فقط مقابل التيار الكهربائي أم تجمع كل الخدمات؟ .

من جهته ناشد فاضل جواد هليل من إعلام المديرية العامة لتوزيع كهرباء الفرات الأوسط جميع المواطنين بالتعاون مع شعبة التفتيش المتواجدة في جميع دوائر الكهرباء، من خلال الهواتف الموضوعة في استعلامات كل دائرة، لغرض وضع حد لحالات الابتزاز، التي قد تحدث هنا وهناك، وقال: إن جميع الخدمات تقدم بشكل مجاني، وإن مبالغ الاشتراك التي يدفعها المواطن شهرياً مقابل خدمة الكهرباء تشمل جميع عمليات الصيانة، سواء داخل الدار أو في أعمدة الشوارع وإن ابتزاز أي مواطن أمر مرفوض يحاسب عليه القانون، ويتعرض فيه الموظف إلى أقسى العقوبات .