{حيرة} الدراما العراقيَّة بين الواقع والاستنساخ
رضا المحمداوي
منذ سنوات عديدة بدأت الدراما العراقيَّة تعاني اغتراباً فنياً واضحاً وَضَعَها أمام إشكالية درامية كبيرة، وتجسَّدَ هذا الاغتراب وإلاشكال الفني بقيام مخرجين سوريين ولبنانيين وحتى مصريين بإخراج الأعمال الدرامية العراقية.
وسبق لي أنْ توقفتُ نقدياً عند هذه الظاهرة وناقشتُ جميع جوانبها الفنية درامياً وإخراجياً، وفي ظل عدم وجود جهة رسمية حكومية أو نقابية عراقية تقف بوجه هذه الظاهرة للحدِّ منها وإيجاد الحلول الفنية المناسبة لها التي تنصف المخرج العراقي الذي يعاني من البطالة والعطالة، فأن الظاهرة وبتوالي الإنتاج الدرامي بدأتْ تستفحل وأخذتْ بالتمدد والاتساع ،ووصلت إلى مديات أكثر خطورة وزادتْ من اغتراب الدراما العراقية عن واقعها والابتعاد عن جذورها وطبيعتها العراقية المتميزة وذلك من خلال تجربة الاستنساخ الدرامي للمسلسلات التركية والنسج على منوالها بوجوه وأصوات وأيد عراقية وداخل البيئة التركية نفسها، ويقف مسلسل (حيرة) الذي أنتجته قناة ( m.b.c عراق) على غرار المسلسل التركي الذي يحمل العنوان ذاته وبـ (معالجة للسيناريو والحوار واستشارة بيئة ثقافية) للكاتب العراقي المعروف:حامد المالكي ومن إخراج المخرج التركي ماهر بيراف، وتمثيل أياد الطائي والكسندر علوم وزهراء بن ميم وبتول كاظم وبراء الزبيدي وانعام الربيعي وغيرهم.
عملية استنساخ
وإذا كنتُ ذات مرة قد وصفتُ كاتبنا الدرامي القدير حامد المالكي بأنه مشاكس درامي، فإنه هنا باشتراكهِ في عملية استنساخ المسلسل التركي لا يبدو متصالحاً مع نفسه أو منسجماً تماماً مع أفكارهِ ومنطلقاتهِ الفكرية وتطلعاتهِ الدرامية، ورُبَّما خَضَعَ لاشتراطات ومغريات مادية دفعتْهُ إلى وضع يده تحت الدجاجة التي تبيض ذهباً من خلال استنساخهِ للمسلسل التركي بحلقاته التي من المؤمل أنْ تمتد إلى( 250) حلقة، وتم إنجاز (90) حلقة منه في موسمه الأوَّل ووضعها على منصة الأفلام الشهيرة(سينمانا)، ويفترض أنْ يمتد إنتاج حلقات المسلسل لأكثر من موسم وهذا يعني إنتاجياً زيادة عدد الساعات الدرامية المنتجة ترافقها زيادة وتراكم في اجور وتكاليف عملية الاستنساخ الدرامي للمسلسل التركي الجاهز. ومن المعروف أنَّ مثل هذه المسلسلات الطويلة بحلقاتها التي تمتد لمواسم وأجزاء متعددة شأنها شأن المسلسلات المكسيكية والأميركية غالباً ما يُطلَقُ عليها مصطلح (سوب أوبراsoap opera ) أو دراما فقاعات الصابون للدلالة على تكاثرها وتناسلها ومن ثم اختفاؤها دون أنْ تترك أثراً درامياً مُهمَّاً.
ولا أحسبُ أنَّ عملية الاستنساخ والتقليد الأعمى في إنتاج عمل درامي عراقي على غرار مسلسل تركي ومحاولة زرع واقع عراقي داخل بيئة تركية يمكن ان تأتي بإنجاز ذي قيمة فنية مَهمَا حاول (المُقَلِد) الفني أن يوفرعوامل وعناصر الإقناع والتبرير، لا سيِّما إزاء البيئة الاجتماعية العراقية المعروفة بخصوصيتها وطبيعتها المميزة، ولا يبقى سوى الجانب التجاري وراء إنتاج مثل هذا المسلسل رغم ارتفاع تكاليف الإنتاج في تركيا من أجور متنوعة وإقامة فندقية ومواقع تصوير وغيرها.. وهو أمرٌ يعود إلى القناة المنتجة صاحبة المشروع الدرامي وحساباتها الانتاجية من حيث الربح والخسارة وتبعاتها المالية. إنّ المأزق الدرامي والفني الكبير الذي عانى منه مسلسل (حيرة) يكمن في استنبات شخصيات عراقية داخل التربة التركية ومحاولة خلق وتكوين المناخ العراقي داخل تلك الأجواء التركية واستعارة نمط العلاقات الاجتماعية السائدة بعاداتها وتقاليدها وتفاصيلها المعروفة لدى الجميع، وجاء التصوير في تركيا لهذا المسلسل الذي يفترض به أن يحمل البيئة المحلية العراقية ليزيد من اغتراب العمل الفني عن واقعهِ ومن ثم الابتعاد عن ذلك الواقع كلياً، فجماليات الأجواء التركية الهادئة بمواصافتها السياحية المعروفة لا يسدُّ غياب الواقع العراقي ولا يغني عنهُ شيئاً.
محاولات ترقيعية
وإزاء هذا الاستغراق في البيئة والأجواء التركية لم يبقَ أمام المخرج سوى هذا (القطع) إلى الأجواء العراقية والبغدادية حصراً مثل الشوارع العامة وضفاف النهر وبعض المعالم العمرانية المعروفة، لكنها بقيتْ ضمن المحاولات الترقيعية أو عمليات اللصق من الخارج إن لمْ تكنْ قد زادتْ من نسبة ذلك الاغتراب وذكَّرتْ المتلقي بالهوية العراقية المفقودة!
تبقى الدراما أقرب الفنون قاطبة إلى الحياة الواقعية وهي تعتمد اعتماداً كلياً على الواقع وما يفرزهُ من أزمات ومشكلات اجتماعية بجميع مجالاتها، ويستمدُّ فن المحاكاة قوَّتَهُ وفعاليتَهُ وتأثيرَهُ من محاكاتهِ للواقع والحياة والناس، وإنْ كان هذا لا يعني التطابق التام مع مجريات ذلك الواقع والحياة، وبالمقابل فأن الابتعاد جذرياً عن مُحّركات ذلك الواقع ودوافعه الإنسانية الفاعلة سيقود عملية المحاكاة إلى عدم الالتزام الفني و ضعف الانجاز وتشتت وضياع الجهود، حيث تفشل هذه العملية عن ابتكار العالم المماثل أو الموازي للحياة وواقعها الصاخب، وهو ما حَصَلَ فعلاً لمسلسل (حيرة) العراقي المصنوع تركياً حيث كان الناتج النهائي عملا ً هجيناً لا ينتمي إلى نفسهِ وعالمهِ المُفبرَك،وبقي المسلسل بإحداثهِ وشخصياتهِ ساذجاً وبحاجة إلى جرعات كبيرة من الجدية والإخلاص الفني لكي يكون مُقنعاً بالحد الأدنى من القناعة الفنية، وبقيتْ البيئة الاجتماعية مفتعلة والأحداث مُلفقة والمعالجة سطحية ومصطنعة لا أصلَ لها ولا جذور، والشخصيات هوائية مُعَلقة في فراغها الاجتماعي.
اعادة تدوير
وسيبقى إنتاج مثل هذه المسلسلات مجرد إعادة إنتاج أو (إعادة تدوير) لنتاجات درامية أجنبية ولا تُقدّمُ سوى بضاعة درامية رديئة هدفها ركوب موجة إنتاج هذا المسلسلات التجارية بفقاعات رغوة الصابون بالحلقات المئوية والمواسم المتعددة. وبالتأكيد أنَّ هذا الحكم النقدي لم ينطلق من فراغ، ولم يكن حُكمَاً مسبقاً أو انطباعاً مُتسرعاً، لكنَّهُ كان قناعة نقدية تفرضها المعاينة النقدية المتأملة والمسؤولة في ظل الاحتكام إلى مبادئ وأُسس الدراما بطابعها الاكاديمي حيث تعمل المُشاهدة والمتابعة المتتالية للحلقات على ترسيخ ذلك الحكم لا سيِّما في ظل ضياع أثر ومفعول تلك المعالجة الدرامية وابتعاد الشخصيات عن التأثير أو التعاطف أو التفاعل، وأية محاولة لاستنباط قيمة فكرية أو ثقافية من تلك الدوّامة الدرامية ستكون فاشلة وبدون جدوى.
اعتمدَ المسلسل البناء الدرامي المغلق على نفسه مع محدودية الارتباطات والعلاقات الخارجية، وبقي هذا النسق الدرامي الداخلي هو الحجر الأساس للبناء الدرامي برمتهِ حيث ستأخذك دوَّامة العلاقات المتشابكة والمتقاطعة معها ولا تعرف أين يمكن أن ينتهي بها المطاف فالحلقات تترى والأحداث تدور..
وهذا القسرُ والاقحام في رسم خارطة العلاقات ونمط الشخصيات الداخلة في تلك الخارطة وفقدان الكثير من عناصر الاقناع والتبرير أخَذَ يتحكّمُ في أجزاء كبيرة من المسلسل وأحداثهِ وحلقاتهِ المتتالية، لا سيِّما في ظل تعدد قصص الحب والعلاقات العاطفية مع إضفاء أجواء رومانسية توفرها بعض ملامح البيئة التركية الحاضرة بقوة في المشهد العراقي المصنوع بأدوات تركية.