الفنُّ كواجهةٍ ومجابهةٍ فكريَّة

ثقافة 2023/03/13
...

 خضير الزيدي 

 

تأخذ أعمال الفنانة هناء مال الله وجهة تصاعديَّة، من حيث تقنيات العمل والتفكير بنمط الأسلوب المباشر.

أو الاشتغال على مفاهيم وحقائق ذهنيَّة وعقائديَّة، فالغالب من أعمالها لا تبدو ذات نزعة عاطفيَّة تقترب تحت طائل المباشرة والتلقائيَّة أمام عين المتلقي، إنَّما نعثرُ على مزيدٍ من الكشوفات ذات السياق الفكري ومنه المناهضة السياسيَّة التي نجدها في بعض منجزاتها الأخيرة كحزمةٍ من الشعور بالمسؤوليَّة اتجاه ما يصيب بلدها العراق أو المنطقة، ومثل هذا التوجه يوفر للمتلقي قواسم مشتركة عدة ترتبط بين خيال الفنانة وتوجهها العام، وما يبحث عنه متلقي أعمالها فما الذي تغيّر في فنِّها عبر وسائط الرسم، ولماذا تصرُّ دائماً أن تجعل من رسوماتها وحتى أعمالها المفاهيميَّة الأخيرة وعاءً معرفيَّاً؟ 

لنقل أولاً إنَّ هناء مال الله فنانة اتّسمت بالتفرّد، وبدت لنا خطواتها خارج سياق المجاميع الفنيّة، وهذا التفرّد ليس لأنّها امرأة بل لأنَّ عقلها يدرك أن التفرّد وايجاد أفكار خارجة عن المألوف تحتاج لمساحة من التفكير والتأمّل، لذلك يبدو ابتكارها الفني وكأنَّه يخرج للمراقب عملاً يتكيّف مع عناصره ومكوناته وغالباً ما نراه يمتلك بعداً دلاليَّاً أكثر غوراً وعمقاً مما نجده في أعمال مجايليها.

والأسباب كثيرة لو تطرّقنا لها، لكن المهم عندنا ما يبديه الخيال من صنعة وما تتركه اليد من أثر.

وأتذكّر بأنّها قالت لي في أكثر من حوار معها (بأنَّ الدائرة الواسعة التي وضعت بها هي التي صنعت أمامي اختياريين، أما أن أضاعف من جهدي وعليَّ اللحاق أو الاعتزال، إنَّه تحدٍّ كبير، وهو تغيير ايجابي حينما فتحت عيني وعقلي على القيمة الحقيقيَّة للفن، وأدركت مدى التقاليد الفنيَّة والفكريَّة المشوَّهة التي كنت استند إليها).

ولعلَّ القارئ لمثل هكذا كلام سيدرك مدى اهتمام هذه الفنانة بعالم الفن وتجديد خطابه، ففي عملها الموسوم (بالسلام الكاذب) والذي تمَّ إنجازه عام 2011 وعرض لأول مرة في العام  2013 في معرض بارك/ لندن ثم في معرض أبوظبي عام 2014 كان ذا طابع مفاهيمي وهو يحتمل أو يستند شكلا إلى ثلاث ركائز (الهدهد/ شجرة الزيتون/ مادة العمل)، وهذا التغيير في نسق فنها كان جزءاً من مجابهة حقيقيَّة تحتمل بعدين ديني كدلالة لطائر الهدهد وسياسي، لما تحمل شجرة الزيتون من طابع لأرض فلسطين ناهيك عن مادة العمل الأساسيَّة (الصفيحة المعدنية) التي تستخدم في ملء الزيت.

هذا المؤشر هو خوض في غمار المواجهة وعلى الآخر أن يتلقى رسالة الفن، فمقابل فكرة السلام الكاذب هناك فكرة مواجهة من نوع له منظومة ووجهة دلاليَّة فلا غرابة على فنانة قدمت لنا تصوراً حقيقيَّاً لمفهوم (تقنيات الخراب).  أن تعمل على فكرة السلام الكاذب فقد أسست ضمن مشاريع المجابهة والمناهضة السياسيَّة على أكثر من عمل.

وصرّحت لي بأنَّ ما أطلقت عليه يومها بتقنيات الخراب هو ضمن تقنياته ومفهومه أنتج بعد مغادرتها للعراق وإلى (الآن وهو يستوعب رؤيتي عن الزوال السريع للأشياء وكذلك استوعب مفهومي عن الموت).

وهذا التصور في بناء مادة العمل الفني ورؤيته يكشف لنا بأن هناء مال الله تصرُّ أولاً على التجريب في المنجز الفني، وتنتج لنا أعمالاً مختلفة مع تقديم تنظير يخص عملها والإمكانات التي تقدمها.

في كتابه (حرب الفن) يصرح ستيفن برسفيلد وهو باحث تاريخي أمريكي بأنَّ المقاومة لا تعيق طريقك إلا عندما ترغب في الارتقاء بمستواك فقط، ويقول في موضع آخر إنَّ المقاومة لا تتمتع بالقوة من تلقاء ذاتها.

ما تفعله هناء مال الله في أعمالها ذات الخطاب السياسي أو المناهض للمحتل يتمُّ عليه العثور بعيداً عن غرائز الانتاج الفني.

إنه تأسيس لتجربة تتحكم فيها العقلانيَّة ويطورها التأمّل والارتباط برؤية متقدة تعرف أين يكون موقع قدم الفن، وكيف تكون المجابهة، وقد يكون لقول ستيفن برسفيلد تشابه كبير مع ما ينطبق على منجز هناء مال الله.