الأعمال الشعريَّة الكاملة لأنسي الحاج

ثقافة 2023/03/13
...

أنا وأُنسي الحاج


كنتُ حينها فتى في بداية بدايات كتابة الشِّعْر. 

كنتُ أخرج من بيتي في دمَّر، وأصعد جبل قاسيون، ثمَّ أهبط منه في ساحة الأمويِّين الدمشقيَّة، وأدخل المكتبة الوطنيَّة متجنِّباً النظر إلى تمثال حافظ الأسد الرابض في مدخلها. 

أُسلِّم على موظَّفة الاستقبال، وأعطيها ورقتي من الكُتُب التي أريدها: لن لـ أنسي الحاج، وكتابان آخران.

يتكرَّر هذا المشهد لأيَّام عديدة، ولا يتغيَّر شيء أبداً سوى عنوانَي الكتابَيْن الآخرَيْن. 

تسألني الموظَّفة بعد أيَّام من تكراره: ما قصَّتُكَ أنتَ مع كتاب لن هذا؟

أبتسم ولا أُجيبها. 

آخذ كُتُبي، وأدخل قاعة القراءة، أبحث عن الطاولة الأكثر عُزلة وأجلس.

كنتُ أقرأ لن كاملاً كلَّ يوم، ثم أنسخ منه على دفتري قصيدة واحدة، ثم أكتب عشرات القصائد متعمِّداً تقليد تلك القصيدة، كان هدفي أن أتشبَّع بأُنسي الحاج، أن يسري شِعْره إلى نقيي عظامي، أن يدخل في تركيب الـ DNA خاصَّتي. 

أن أفوحَ شِعْراً مثله.

سمَّتْني الموظَّفةُ «لن». جاء «لن»، ذهب «لن»... إلى في يوم من الأيَّام لم يكن «لن» في قائمتي، بل استبدلتُهُ بـ «الرأس المقطوع». 

ولكم أن تتخيَّلوا وجهها! وهكذا مرَّت أيَّامٌ كثيرة حتَّى وصلتُ إلى «الرسولة بشَعْرها الطويل حتَّى الينابيع»، فبعد أيَّام من دخولي فيه، وكنَّا دخلنا فصلَ الشتاء، قالت لي مها: تعرف أنّي قرأتُهُ بالأمس. 

تبادلتُ أنا وهي القبلة الأولى في غرفة أمانات الملابس، وثمَّ ربطتْني بها علاقة طويلة جدَّاً، لكنها لم تصل إلى الينابيع.

أساساً لم يكن شَعْرها طويلاً حتَّى. وكنتُ أنا قد وصلتُ إلى «الوليمة» التي أردتُ، كنت أمشي في الشارع وأنظرُ إلى المارَّة بعينَيْن قويَّتَيْن وأسألهم: تريدون شِعْراً؟

قراءة أُنسي الحاج حينها كانت حاسمة بالنسبة إليَّ لأتَّخذ درب الشِّعْر المنثور، وليس بسبب تنظيره له في مقدِّمة لن، بل بفعل نصوصه التي تقدِّم أنموذجاً فريداً لما يمكن لشاعر أن يبعد في فرادته، بصعوبة بالغة تُناقِض تماماً تلك السهولة التي تقدِّمها القصيدة الموزونة، والتي على سهولتها تظلُّ أصعب من تلك المُقفَّاة. 

صعوبة لا يدرك كُنهها إلَّا مَنْ كان مثل أُنسي لديه القدرة على الرؤية. رؤية ذلك العصب الذي للهواء الذي نتنفَّسه، رؤية ما يكتبه ليس كلغة مكتوبة، إنما كأشكال مُتجسِّدة وحَيَّة، ولها حرارة أيضاً. 

ومع أنّ أُنسي الحاج جاء من المستقبل، لكنْ، هناك شيء به يشبه إنسان ما قبل عصور التاريخ، فكأنّه حين يكتب شِعْراً يرسم رسوماً على الحجارة أو على جدران الكهوف، ثمَّ يمضي. لأنّني حين أقرأ شِعْره أشعر دائماً وكأن يدي تلامس سطوحاً حجريَّة، ولا أبالغ حين أقول لكم إنّه لأكثر من مرَّة انتبهتُ وأنا أقرأ شِعْره بأن في يدي قبضة رمل، لا أعرف كيف جاءت. 

يكتب على هذه السطوح التي لم تُسَوَّ من قبل، والتي تختلف أحجامها وتملؤها النتوءات والانحناءات والمساحات الهشَّة، أو القاسية جدَّاً، أو الرطبة، أو الجافَّة، ومع ذلك، فإنّه يكتب نصَّاً يُقرأ بوضوح شديد، وكأنّه تسرَّب في مسامَّات تلك السطوح الحجريَّة، وأصبحتْ مثل ما يصبح الوَشْم على الجِلد الحَيِّ. يقول:


بحَجَرٍ أَحْفُرُ الحَجَرَ: جَسَدي وردة

وفي قصيدة أخرى،

تُلاطفِين وجهَ الحَجَرِ، فيدفقُ نهر

ما ظلَّ معي حتَّى اليوم هو أُنسي الحاج. مجموعاته الشِّعْرِيَّة التي نسختُها على دفاتر نزعتُ عنها الغلاف، وعوَّضتُها بأغلفة من تصميمي أو «شخبراتي» بتعبير أدقّ حينها، المهمُّ كانت تلك هي المرَّة الأولى التي أكون فيها ناشر أُنسي الحاج، ناشره السرِّيّ. 

ما زلتُ حتَّى الآن أذكر تلك الأغلفة والدفاتر التي رافقتْني لفترة لا بأس بها، إلى أن ضيَّعتُها «في صحراءِ اليقينِ المُظفَّر». 

ها أنا الآن أصبح ناشره مجدداً، ولكن العلني هذه المرة، وبأغلفة ودفاتر لن تَضيع.

في أعماله الكاملة التي نُصدرها الآن، أسمينا الجزء الأوَّل (الشِّعْر)، وسيتضمَّن المجموعات الشِّعْرِيَّة الستَّة الأولى له، والتي يكون فيها شِعْره أميناً لمقدِّمته في ديوانه لن. 

ثمَّ سيصدر الجزء الثاني في مجلَّدَيْن، وسيتضمَّن مقالات أُنسي الحاج والمُعنونة بـ كلمات كلمات كلمات. 

ثمَّ الجزء الثالث، والذي سيشمل خواتم أُنسي الحاج، وسيكون أيضاً في مجلَّدَيْن (خواتم 1+2) والجديد هو (خواتم 3). 

وخواتم هذه هي الجنس الأدبي الخاصّ بأُنسي الحاج، والذي يبدو أنه قد وصل له بعد أن وصلتْ روحه إلى الأقصى الممكن (حسب تعبير بودلير)، وكَتَبَهُ ليُجيب عن سؤاله هو نفسه في بادية آخر قصائد الوليمة: ومتى كان الشَّاعرُ يكتبُ شِعْرَاً؟

بعدها سيكون الجزء الأخير، والذي أسميناه (الترجمات) (إذا ما استطعنا الوصول إليها).

شكَّل أُنسي الحاج حالة نادرة في تاريخ الشِّعْر العربي، مثل طفرة جِينيَّة من داخله، لكنه ربَّما جاء في الزمن الخطأ أو قبل أوانه أو بعده. 

لا يمكننا التثبُّت من ذلك، ولكننا نحلم مثلما كان يحلم هو، لذا نُعيد نشر أعماله الآن، وأملنا أن نلفتَ انتباه الأجيال الجديدة لها وله، شعلة النار التي اتَّقدت في ستِّينيات القرن الماضي، والتي لا تزال متوهِّجة تحت أوراق الخريف. 

لعلَّنا نجد جواباً عن سؤاله:

أمامَ أمواجِ السُّمِّ التي تُغرِقُ كلَّ محاولةِ خروجٍ، وتكسرُ كلَّ محاولةٍ لكسرِ هذه الأطواقِ العريقةِ الجذورِ في السُّخف، أمامَ بعثِ رُوحِ التَّعصُّبِ والانغلاقِ بعثاً مُنظَّماً شاملاً، هل يُمكنُ محاولةٌ أدبيَّةٌ طَريَّةٌ أنْ تتنفَّس؟


قصيدتان من الكتاب:


أغار


أغارُ عليكِ من الطفل الذي كُنتِ ستلدينه لي.

من المرآة التي ترسل لكِ تهديدكِ بجمالكِ.

من شُعوري بالنقص أمامكِ.

من حُبّكِ لي.

من فنائيَ فيكِ.

ممّا أكتب عنكِ كأنّني أرتكب فضيحة.

من العذاب الذي أُعانيه فيكِ، من العذاب الأكثر بلاغةً من المتعذّبين.

من صوتكِ من نومكِ من وضع يدكِ في يدي.

من لفظ اسمكِ.

من جهل الآخرين أنّي أحبّكِ، من معرفة الآخرين أنّي أُحبّكِ،

من جهل الآخرين أنّي أغار عليكِ،

من معرفة الآخرين أنّي أغار عليكِ.

من سعادتي بكِ، من سعادتكِ بأيّ شيء، من وجودكِ حُرّةً

من وجودكِ عَبْدَةً

من وجودكِ لحظةً.

أغار عليكِ من غَيرتي عليكِ.

من أوّل مساء.

من عطائكِ لي.

من تعلُّقي بكِ أشَدّ أشَدّ.

أغار عليكِ لأنّك تقرأينني وأنا أريد أن تحفظيني.

لأنّكِ قد تحفظينني وتحفظين سواي.

لأنّي لا أرى غيرَ حَمْقى،

لأنّي لا أرى غيرَ أذكياء.

لأنّي أُحاصركِ وأتعهّدكِ كالوحش.

لأنّ حُبّي يخنقكِ.

أغار عليكِ ممّا أشتهيكِ أنْ تكوني، وممّا تشتهين أنْ تكوني، وممّا لا تقدرين أن تكوني.

من المرأة لأنّكِ امرأةٌ ومن الرجل لأنّه يراكِ.

من الجنس لأنّه حتّى يعود يجب أن يتوقّف.

من كُلّ ما سيكسره نظركِ.

أغار عليكِ لأنّي خَطَبْتكِ جاهلاً عددَكِ.

لأني أخنقكِ بحُبّي وأنت لا تقدرين أنْ تُحبّيني وأنتِ مخنوقةٌ بحُبّي.

لأنّي ساخطٌ لأنّكِ أجملُ النساء.

لأنّي أمدحكِ فأخاف أنْ تسمعي في مديحي أصواتَ آخرين.

أغار عليكِ من الأشياء التي يكبر فرحكِ بها لأنّكِ تُحبّينني.

من نبوغ جسدكِ.

من عابري السبيل ومن الذين جاؤوا ليبقوا ومن الأبطال والشهداء والفنّانين.

من إخوتي وأولادي وأصدقائي.

من الأقوياء لأنّهم يأخذون الإعجاب ومن الضعفاء لأنّهم يبدؤون بأخذ الشفقة.

من لبوءة الرجاء النائمة.

من الأنغام والأزهار والأقمشة.

من انتظار النهار لكِ، ومن انتظاركِ اللّيل.

من أقصى الماضي الى أقصى الماضي.

من الكُتب والهدايا ومن لسانكِ في فمي.

من إخلاصي لكِ فُرادى وجماعات.

من الموت.

أغار عليكِ أجَنَّ أجَنَّ كلّما تضايقتِ من غَيْرتي عليكِ.

أغار عليكِ من جميع الأعداء ومن جميع الحلفاء.

من الحياة الرائعة التي نقدر أنْ نعيش.

من ورق الخريف الذي قد يسقط عليكِ.

من الماء الذي يَتوقع أنْ تشربيه.

من الصيف الذي تخترعينه بعُرْيكِ.

من الطفل الذي كُنتِ ستلدينه لي.

من الطفل الذي لن تلديه أبداً.


الوداع


كم أريتكَ أنه لا يخفي شيئاً هذا التمثال!

أضعُ يدي الهادئة على صدرك، أيها الصوتُ الحقيقي. كل دعاءٍ عاصفةٌ حاجزٌ وموت. 

وأنا لأذكّر الناسين بالفراق وأنتهك أحزانه. الأمر تبرتي.

وأيضاً أهشّمُ خطواتي وظلّها السبّاق. طاب ليلك أيتها اللازمة الببغاء!


أطاردُ هذا الحبّ

أطاردُ هذا الحبّ

حربُ الجيوش تولد في وَرَقِ المال وحربي فوق العالم تشدّ أطرافه وتشعِّث قلبه. ليَ مع السماء زوجُ كلمات! ستنزاحين ويرون قوالب الدم، لأنني أعرف عقولهم – لقد غيّرتُ لهم نَعْلَ الشرّ!


ألاحقُ امرأةً إلى جدارٍ يحطّمني وتنتصر...

آه! نسيتُ:

أُهرِّبُ هدفي، وأصل قَبلَه!