لِيكُنْ بيننا الحلم

ثقافة 2023/03/13
...

 ياسين طه حافظ

كم نتعجّل في الحكم وكم نخطئ في الأحكام، هذا ما أردت أن أخلص إليه اليوم. حينما جاءت فلسفات منقذة من الضلال، جاءت بحلول ارتآها بعضنا الوحيدة الشافية أو هي فضلى الفلسفات. وناصبها العداء بعضنا، بل قاتلها وقاتل متبنيها.ما كانت تلك خطأ وما كانت آثمة لتعاقب، ولكنها غير التي ألفوا وغير التي ارتضوا. أيضاً ما كان أولاء المتصدون أشراراً وإن كانوا قساة في المواجهة فكأنهم يقاتلون أعداء وغزاة. يمكن أن نرحمهم بالقول كان ذلك إيمانهم وجاهدوا ضد ما ظنوه مؤذياً.

حقيقة الأمر أن حماسة مفرطة هنا أوقفت الاصغاء. وحماسة جنونيَّة وفورة طغيان كانت هناك، فساءت محصلة العمل وخسرتا المعنى.

أولاء رأوا فيما عندهم الأصلح منهجاً للعيش والسلوك والعمل. والمتورطون بما لا يرضي رأوا ما لديهم خيراً منها وصاروا يخشون الأسوأ يأتي وعملت بينهما مكبوتات العصور من الامتهان، فرأوا فرصة لهياج كراهاتهم وأنّهم يتذوّقون طعم الانتصار على  السِوى- فرصة هي ما داموا رأوا الأسوأ يأتي  يريد حياة غير التي رسموا ويريدون. 

هذه المعضلة عانى منها الناس وعانوا من بعد عقابيلها في جميع العصور. أنا اليوم، وأنا أسحب قدمي متعباً في غيابة الثامنة والثمانين، أكاد استسلم تماماً لمصير صار أكيداً، وإلى حكمة مؤسفة... وما دمنا سنموت جميعاً، اذاً فلنمضِ وقتاً ممتعاً ما استطعنا.

جاءتني هذه الفكرة حلاً، وقد أدركها من قبل أفراد منهم عقلاء ومنهم غفَّلٌ وبهاليل! حين تأكدت أني ماضٍ عن العالم بغربتي الهادئة، إلى العدم أو إلى المجهول. 

صارت غربتي تتضح عمن حولي، وعن البيت وأشجار الحديقة التي زرعت وزيتونة الباب وكتبي وما كتبته أنا لغيري وغير مبالٍ بالكم الذي نشرت والذي ماعدت أذكر تفاصيله ولا احتفظت بكثير منه.

لكني سألت نفسي عما سيكون عليه العالم لو أننا جميعاً فكرنا هذا التفكير واستسلمنا لمصائرنا؟ 

ومع أنّها مشاعر حميمة وادراك فاجع نحتمله بصمت وبعجز وانعدام حل، سألت: هل نرتضيه للجميع؟

تعميمه يعني دمار العالم وضمور الحياة مثلما يعني تلف الساعات والأيام المتبقية لنا أفراداً، فنحن نكمل الخسارة إلى آخرها.

صرنا إذاً بين حالين، بين تفكيرين انتهى لهما مفكرون متأملون قبلنا، قبلنا ربما بآلاف السنين. من هذه «التفاكير» والتأملات، أو الحلول، هو التخلي أو التنازل الهندوسي، القائم على فكرة التخلص من السيطرة غير الضرورية وعدم مواجهة المشكلة أو التجربة وجهاً لوجه، بل في خلال التخلي عنها وتحرير النفس من الخوف ومن التهديد الدائم والهم...

وهو هنا استسلام عاقل وبوعي وبنوع من المفاوضة الحكيمة والمسالمة مع المصير..

الحل الآخر أو الفلسفة الأخرى، مخالفة لهذه تماماً، هي أشد طاقة وأكثر اقتحاماً وعناداً. تلك هي أنا نعيش زمننا بقوة وشجاعة ونهيء ظرفا أفضل لعيش أجيالنا المقبلة أو سلالاتنا.. وهنا نعمر وننمي اقتصاداً ونبني جسوراً ومصانع ونصنع حياة ونعيد تنظيم الطبيعة والناس...

يبدو الكلام مفرحاً، ولكن هل هو حقاً مفرح للجميع؟ هل هو مفرح  لضحاياه مثلاً؟ الذين يموتون انكساراً أو جهداً أو قتلاً عدوانياً وهم  يواجهون الصعاب ويبنون الحياة؟ ثم ماذا عن أولئك الذين يعانون دماراً يومياً عبر العمل الشاق والهيمنات الشرسة ويباس الاجراءات وخلو الكدح من المعنى؟

عدت لأسأل شيخوختي: وماذا بعد؟

لقد قاتلنا بأفضل ما استطعنا أسوأ الظروف وأسوأ البشر وأسوأ المواسم. وعرفنا الخوف كما لم نعرف شيئاً أكثر منه وعرفنا البؤس اليومي والنظر السيء تهديداتٍ أو امتهاناً وحاولنا انقاذ الذات بما كتب الناس في العالم ونقلنا بعضه لناسنا لينعموا قليلاً أو ليشفوا.

والنتيجة بعد كل ذلك هي ما قاله أبو نؤاس زاهداً ومستسلماً:

(( فاذا عصارةُ كل  ذاك  أثامُ ... ))

انتهيت بأن مسحت ذقني مثل أي خاسر فلا جدوى من كل ذاك وأنا الآن مفرد وحيد في غرفتي، وهي محايدة كأن ادخلها أول مرة. فليس غير أن اترك هذا الانفعال العبثي وأن اتقبل الهزيمة كآخر وأسوأ الهدايا. فاقد أنا كل شيء ومثل مكمل لا ينتظر نجاحاً. وهو في الأخير فشل أو اخفاق أو سدى كل ما كان. إنها الفلسفة الخطأ في البدء والنتيجة غير المنصفة في – المنتهى.

وأمام محنة كهذه، أو حيرة كهذه، لا حلَّ يبدو إلا أن ننتهي الى ما انتهيت. ما كان، هو أنّي توهمت أن أجد مستراحاً حتى أرهقني لاعج العيش والأمل بوصول. 

الحلول التي توصل لها البشر حلول إشفاقيَّة مؤقتة، جعلوا منها لطول الثقة بها واعتمادها، سلوى أو وسيلة ارتياح شاغلة عن هدف، فلا عجب إذا غفوا وإذا ما استمتعوا بمفارقات وطرائف أو أخذتهم إلى حيث شاءت الموسيقى آخرون يريدون من الحياة تكاملها، ويريدون صناعة عالم ملائم لوجودها فتبقى. 

وقد يصل تشبّث ناس بها حدَّ أنّهم يموتون في سجونهم وتحت التعذيب ولايفارقون، ولا ييأسون من المنقذ الذي سيصل. يظل نظرهم للضوء الأخير الباقي بينما آخرون ينتحرون لكي لايروا الخسارة والفقدان.

وناس يعشقون صوراً يصنعونها ثم يجدون لها شبها أو يتوهمون، وترافقهم هذه في الحياة. وناس بلا أي شيء، يجلسون ساعات بصمت!

كل يبحث ولا يجد أو يبحث ويظن أنه قد وجد، ومع الخاتمة دائماً ذهول.

عموماً، نحن نفعل أفضل ما في وسعنا، لكن للأسف ليس لدينا ضمان للنجاح أو للجدوى. 

وأخيرا، كما الحال لي أنا الآن، هو القرار الهادئ الأخير بأن ننحدر بسلام تاركين كل شيء لمن سوف يأتي.