المسرح المدرسي وجماليَّات التلقي الحديثة

ثقافة 2023/03/13
...

 د. علاء كريم

عديدة هي الخطوات التي يمكن بوساطتها تحقيق الجودة التربويَّة في منظومتنا التعليميَّة، ومنها: المسرح وآليَّات توظيف القراءات التي تعد أسلوباً مغايراً للتقليدية المعتمدة حالياً، فهناك مهارات فكريَّة وتقنيَّة يمكن لها أن تعالج العديد من الإشكاليات في المجتمع العربي وأيضاً المحلي، وتحريك كل ما هو ساكن في تفكير الطلبة الذين هم نواة بناء المجتمع؛ لذا علينا أن نرتقي بالواقع الكلاسيكي إلى أمكنة ومساحات تحقق التنمية والتقدم والازدهار على جميع المستويات والأصعدة.

والمسرح اليوم أحدث تأثيراً تربويَّاً وجماليَّاً مباشراً عند المتلقي، معتمداً بذلك على المفاهيم التربويَّة التي تشكل أهمية للمسرح بشكل عام، والمسرح المدرسي بنحو خاص، والذي هو بالأساس داعم لمجموعة البرامج التعليميَّة، فضلاً عن برامج تنمية الذائقة التي تؤثر في حضور الشخصيَّة وجانبها السيكولوجي، والسعي لبناء شخصية الطلبة وصقل مهاراتهم، عن طريق تنمية ملكاتهم وقدراتهم بشتى الوسائل لرفع قدراتهم المعنويَّة، وأيضاً من جانب آخر العمل على تعزيز فعل الشجاعة وإزاحة الخجل والخلاص من الانزواء، بعيداً عن الآخرين خوفاً من التعليقات السلبيَّة التي يسودها التوجّس والرهبة.

أوجد الاهتمام بالمسرح المدرسي على مستوى العالم، ولكل بلد خاصية في عمليات بث المفاهيم، مثلاً: في المسرح الهندي القديم يتلقون عوالم المسرح منذ الصغر على أيدي آبائهم وأجدادهم، وعند الإغريق كان الشباب في مدينـة أثينـا يتعلّمون الرقص التعبيري ضمن البرنامج الدراسي. وقد أكد أفلاطون على ضرورة تلقين الجند فن المحاكاة وذلك بقيـامهم بتمثيـل أدوار درامية تتعلق بالمروءة والشجاعة من دون غيرها من الأدوار المشهديَّة تفادياً لتأثير محاكاة الرذيلة على طباع الجنود، وفي فرنسا اهـتمَّ كبـار المسرح الكلاسيكي بالمسرح المدرسي، حتى أن رجال الكنيسة الذين أعلنوا رفضهم للمسرح، وجدوا أن ممارسة هذا الفن في الحقـل التربـوي فائدة ومتعة فهذا ما يؤكد أنَّ المربين هم الذين يشرفون على المسرح المدرسي، ويستخدمون اللعب والتمثيل في مجال رعاية الأطفـال والعناية بهم وتربيتهم وتعليمهم، وفق ما جاء به (جان جـاك روسو) في كتابه (إميل) والذي هو علامة دالة على أهمية اللعب والتمثيل عن طريق الحياة، كونهما مرتكزات جوهريَّة في التربيـة الهادفـة. كما ورفض (جان جاك روسو) تعليم الطفل بواسطة الكتب، كونه يفـضل أن تعلمه الطبيعة بواسطة اللعب والحركة والحـواس والمـشاركة. فاللعب في المسرح يعد مدخلا أساسيا للتعليم واكتساب الفكر والثقافة، فضلاً عن أنه درس حقيقي في الأخلاق.

وفي روسيا اعتمد المسرح المدرسي عند دخـول القصص الدراميّة الغربيّة، وكان هدف هذا المسرح أيديولوجي إذ يتمثل في إظهار بـشاعة الرأسـمالية وحقارة المحتكرين، ويثبت (مكـسيم غـوركي) ذلك بقوله: نؤكد التزامنا بـان نـروي لأطفالنـا القصص بطريقة مرحة وممتعة، فـالالتزام أن تـصور القـصص وتلـك المسرحيات بشاعة الرأسمال وحقارة المحتكر. وهذا قد يؤكد بأن أوروبا عرفت مسرح الطفـل قبـل العـالم العربي، علماً أن المسرح المدرسي عند العرب وخاصة في العراق وجد منذ أزمنة بعيدة، لكن تراجع هذا المسرح في بداياته لأنَّ عروضه كانت ارتجاليَّة لا تعتمد على نـص فعلـي. وكـذلك القرقوز ومسرح خيال الظل وغيرها من المسارح العربيَّة، وهذه نظرة تاريخيّة مكثفة عن المسرح المدرسي، رغم شكل التطورات التـي عرفها هذا المسرح، والتي ارتبطت ارتباطاً مباشراً بالتربية والتعليم المعاصر. نشأ المسرح المدرسي في العراق اواسط القرن التاسع عشر، وارتبط بإنشاء الجاليات الأجنبية لمدارسها، ومنها «الجالية الفرنسية» في الموصل، والمدارس اليهودية والمسيحية في بغداد والبصرة، استمر هذا التقليد عبر الأنشطة المسرحية في المدارس العراقية في بداية القرن العشرين. 

ساعد هذا العمل بشكل مباشر في خلق مسرح خاص بالأطفال عالمياً، وبدأ يظهر أدب الأطفال، وكتابات لحكايات مختلفة، اعتمد بوساطتها كتاب مسرحيات الأطفال أفكار أعمالهم من هذه الحكايات، إضافة لاستعانتهم بما كان مترجماً لديهم من حكايات ألف ليلة وليلة، وغيرها. مجموعة أعمال مهمة قدمت بهذا الجانب، لكن سرعان ما بدأ هذا المسرح أن يخفت بريقه، بسبب السياسات الحاكمة التي أثرت في الجانب المعرفي والحياتي وايضاً النفسي للمجتمعات، فضلاً عن أثر الحروب والدمار الذي هيمن على المنطلقات الفكريّة للمسرح المدرسي التربوي، وأيضاً في تربية الطفل على مستوى محلي.

من ثم هي دعوة نقدمها عبر مساحة اشتغال الهيئة العربية للمسرح، والتي استطاعت أن تتحرك بشكل علمي وإنساني وفي أمكنة مختلفة، لصناعة وعي مغاير، يرتبط بالعلوم المتعددة وبالتطورات السريعة على مستوى العالم، لنتمكن من إعادة المسرح المدرسي بشرط أن يثبت في المناهج الدراسية ليكون بوابة لنشر فعل السلام والتعامل مع الحياة وفق قانون الإنسانيَّة عن طريق الحب والجمال. كما نحتاج إقامة محاور فكريَّة للمسرح المدرسي وعلى مستويات متعالية المفاهيم، وتكون هذه المحاور ضمن فضاءات المهرجانات، فضلاً عن الورش المسرحية التي تعمل على تنمية وتطوير المسرح المدرسي في الوطن العربي. ونحن نعرف أن الهيئة العربية للمسرح، نظمت مؤتمرات على مستوى المؤسسات والوزارات عربياً، وبحضور خبراء ولجان متابعة لهذه المشاريع الاستراتيجية، والتي تهدف للوصول إلى جماليات التلقي الحديثة، وإلى خلق بنية تجريبية تتفاعل مع الواقع، عبر تأويلات وقراءات تكشف مظاهر الخفاء والأفعال المستترة في هذا الجانب، فمن الصعب أن نقرأ الظاهرة الإبداعيَّة والأسئلة التي تطرحها، من دون تجارب تطبيقيَّة.