عن الزمن المسروق من عمر الناقد

ثقافة 2023/03/14
...

  د. فاضل عبود التميمي


عن دار دجلة في الأردن  صدر للناقد العراقي الدكتور قيس كاظم الجنابي كتابه الجديد (الزمن المسروق) 2023، وهو بحسب عتبة عنوانه الموازي (ذكريات أليمة في معتقلات الاحتلال الأمريكي من 26/ 6/ 2006 إلى 13/ 3/ 2008م يرويها المعتقل رقم (19782) الذي تولى شرح دلالة العنوان الرئيس، بمعنى أن تلك العتبة الموازية انفتحت على جملة دلالات مؤداها: أن الزمن المسروق هو زمن حقيقي سرق من عمر الناقد في المعتقلات الامريكية إبان الاحتلال الأمريكي للعراق بعد العام 2003 بحجة صلة الناقد بالجماعات الإرهابية.


 فضلا عن انفتاحها على زمن السجن، والرقم الدال على اسم المسجون، وقد استعار الناقد العنوان من كتاب فكري لم يسمّه كان قد قرأه بعد إطلاق سراحه حين وقف مليّا عند عبارة (الزمن المسروق)، وهي استعارة سوغتها ملاحظة الناقد في مقدمة الكتاب.

 والكتاب في شكله ومضمونه إحاطة سردية بتجربة الناقد قيس الجنابي في السجون الأمريكيّة التي فُتحت في عراق ما بعد الاحتلال حاول من خلالها تقديم متنٍ وَصَفَ من خلاله حياته بتناقضاتها، ومواقفها، وأحزانها، والناقد لا يملك -والكلام له- سوى الأوراق التي هرّبها من السجن لتكون دليلا على حياة استثنائية عاشها  هناك.

أحال عنوان الكتاب الموازي على مضمون خاص فهو (ذكريات) والذكريات مصطلح سبق للناقد محمد صابر عبيد أن حدّد مفهومه بسرد استعادي يتمتّع بحريّة استذكار كافية، لا يخضع لأيّ ترتيب زمنيّ محكم يستحضر فيه صاحب الذكريات صورا حدثيّة ذات طبيعة عاطفيّة خاصّة بالاعتماد على الذاكرة لينفتح السرد على الفضاء العام باستخدام الوصف في التصوير بعيدا عن الذاتيّة، وقد أكّد الناقد في مقدمة الكتاب أن عنوانه ينسجم مع روحيَّة (المذكّرات)، وهنا أسجّل ملاحظة مؤدّاها تغاير التعبير الاصطلاحي عند الناقد بين العنوان والمقدمة؛ أي بين (ذكريات) و(مذكّرات)، فالمذكرات بحسب الناقد محمد صابر عبيد أيضا حكيٌ استرجاعيٌّ يقوم به صاحب المذكرات بوصفه مشاهدا حين يراجع مدوناته فيعيد كتابتها برؤية متكاملة تتّجه نحو التاريخ، والأحداث، والموضوعات أكثر من اتجاهها إلى البناء الشخصاني، ويبدو لي أن المصطلحين يتعارضان مع ما جاء في مقدمة الناقد للكتاب أيضا حين أشار إلى أن كتابه يمثل الجزء الثاني من سيرته الذاتيّة، وقد أدرك جوهر الحقيقة، فالكتاب سيرة ذاتيّة عاشها في السجون الامريكيّة في بغداد والبصرة، والسيرة الذاتية بحسب الناقد فيليب لوجون  حكيٌ استعاديٌّ نثريٌّ يقوم به شخصٌ واقعيٌّ عن وجوده الخاص، وذلك عندما يركز على حياته الفرديّة، وعلى تاريخ شخصيّته بصفة خاصّة، فهي نمطٌ من السرد المقصود الذي يلاحق سيرة الإنسان من داخل الإنسان نفسه يعتمد الاسترجاع الذي تتداخل فيه المواقف، والأحداث مشكّلة خطاب الذات، وهو يتتبّع وجودا يُعاد انتاجه على الورق، وهذا ما وجدته في (الزمن المسروق) الذي يروي أحداثه المعتقل رقم (19782)، فالكتاب سيرة، بدليل بنائه من خلال اعتماد المؤلف (التصريح) على أنّ ما كتبه هو جزء مهم، ومختار من حياته بالإحالة على المشاعر، والأفكار، والصراعات، وطرائق الاتّصال بالمحيط المعيش، و(تصريح المؤلف) الذي وجد في المقدمة  هو جزء من حياته، وهو في تصوّرات  الناقد (فليب لوجون) ميثاق السيرة الذاتيّة الذي يؤكّد؛ لكي تكون هناك سيرة ذاتيّة يجب أن يكون هناك تطابق بين المؤلف، والسارد، والشخصيّة، والتطابق موجود متن الزمن المسروق.

انفتح نصّ السيرة على يوميات الناقد في تلك السجون؛ واليوميات سرد سيريّ يوثق من خلاله صاحب السيرة أحداث الأيام بكل ما فيها من حوادث تنفتح على اليوم المعيش، فهي مصدر مهم من مصادر (الزمن المسروق) التي أرّخت دخول الامريكان الى داره لغرض التفتيش والاعتقال في 25/ 6/ 2006، وأول يوميّة سجلها كانت بتاريخ 1/ 7/ 2006 في معتقل كروبر (المطار)، وآخر يومية سجلها بتاريخ 16/ 3/ 2008 وصف بها حاله، وهو يعيش في بغداد استعدادا لإطلاق سراحه. 

 إنَّ القراءة الدقيقة لمتن (الزمن المسروق) تشير إلى أن (اليوميّات) كانت المدوّنة الأساسيّة لمتن السيرة: الكتاب، وهي غنيّة في سردها، فقد دوّنها الناقد وهو يعتمد على مئات الحوادث التي مرّت به طوال سجنه، ويبدو لي أنّه كان قد بكّر في كتابتها إحساسا منه أنها القاعدة الماديّة لنشاطات مستقبليّة مختلفة، وخوفا من شطط الذاكرة التي قد تخون صاحبها. 

  كان الناقد الجنابي في سجنه حريصا على تدوين يوميّاته التي ستعينه فيما بعد على كتابة سيرته، فقد بلغت تلك اليوميّات حجما لا يستهان به، وكان حريصا على الاحتفاظ بها على الرغم من تنقّلاته المكانيّة داخل السجون المختلفة، وقد تمكن السجانون من انتزاع أوراق أخرى من الناقد تخصّ حالته الصحية ومسوغات اعتقاله، وأسباب تمديد الاعتقال، وبذلك نكون قد حرمنا من قراءة تلك الوثائق المهمة. وانفتح نصّ السيرة أيضا على مجموعة من الرسائل التي احتفظ بها فنشر نصوصها، وهي ما كان يتبادله مع أسرته ومحبيه، فهي معنيّة بروح الاتصال مع الآخر، أحال مضمونها على الإخبار، ومزيد من الأسئلة بلغة مركّزة تميل الى الايجاز، والتعبير عن الذات المرسلة إلا في الرسائل المتبادلة مع الأسرة فقد كُتبت بعاطفة واضحة. 

ووثّق سارد السيرة قصائد فصيحة، وأخرى شعبية كان السجناء يرددونها بقصد وبغيره، منها ما هو ديني، ومنها ما هو محرّض على قتال الامريكان، ومنها ما كان يدعو إلى الصبر، وهذا يعني أن السيرة انفتحت على أنواع أدبيّة مختلفة أشار مضمونها إلى خصيصة التداخل الذي سمح بتجاور أكثر من نوع أدبيّ أسهم تماما في ابعاد فكرة نقاء النوع الأدبي، وهذا ما تقبل به السيرة الذاتية بوصفها متنا قائما على التمثيل المختلف داخل النصّ.  

بنيت سيرة الجنابيّ من ثلاثة عشر فصلا سمّى الفصل فيها رتاجا إيمانا منه أن الرتاج؛ الباب العظيم أو الباب المغلق، في إشارة كنائيّة إلى تلك الأبواب الموصدة التي عاش خلفها في سجون الاحتلال، فضلا عن أن السيرة تضمنت ملحقا بالصور والوثائق التي لها صلة بحياة السجين، وأخبار اعتقاله، وملحقا آخر تضمن بيان اعتصام الهيئة العراقيّة للإعلام والثقافة الوطنية الداعي لإطلاق سراحه، وما كتبه الناقد والروائي باسم عبد حميد حمودي، والشاعرة أمل الجبوري وهما يساندان الناقد في محنته.   وكان الرتاج الثاني عشر قد انفتح على أحداث عاصرها صاحب السيرة وهو سجين؛ منها وفيات قسم من الادباء، وحرق شارع المتنبي، وتضمن الرتاج الثالث عشر وصفا لقراءات الناقد في السجن، فقد أتيح له أن يقرأ هناك القرآن الكريم، وقسما من الكتب التراثية، والفقهية، والدواوين، وبعض كُتب عن القصة والرواية، وغيرها، وإذا كانت القراءات الوجه الناصع لسلوان السجين فإنَّ الكتابة الوجه الأنصع ففي تلك الظروف الاستثنائية تمكن الناقد من كتابة مقالة طويلة تقترب كثيرا من البحث عن رواية الهلال لديانا أبو جابر المترجمة الى العربية.  

 إنَّ السؤال الذي يدور في ذهن المتلقي وهو يتم قراءة هذه السيرة الذاتية لم كتب الناقد هذه السيرة؟ بمعنى آخر ما مقاصده في كتابة سيرته؟ كان (جورج ماي) قد رأى أنّ السير الذاتيّة تخضع لعدد من البواعث التي تدفع المؤلّف لأن يكتبها، وقد وجد أن السيرة تنقسم على قسمين في كلّ قسم أضربٌ من (المقاصد):

 الأول: المقاصد العقلانيّة المنطقيّة الرصينة التي تنقسم بدورها على قسمين: التبرير، والشهادة، والتبرير ملخصه حاجة المؤلف إلى الكتابة السيريّة ليسوّغ على رؤوس الملأ ما كان أتاه من أفعال، أو أقوال صدع بها، أمّا الشهادة فتعني أنّ المؤلف كتب سيرته كي لا يزول أثره في الحياة بعد موته، بعد أن ترك وراءه شهادة يمكن الرجوع إليها.

 الآخر: الدوافع التي هي أقرب إلى الانفعالات، والعواطف، واللاعقلانيّة، وهي بدورها تنقسم على قسمين: يتّصل الأول بشعور الكاتب، وقوامه التلذّذ بالتذكار، أو الجزع من المستقبل، والآخر يتّصل بالحاجة إلى العثور على معنى الحياة المنقضية أو استعادتها.

   إنّ قراءة سيرة الناقد الجنابي لا بدَّ أن توصلنا إلى المقاصد التي تكشف عن النوازع النفسيّة التي عادة ما تختبئ وراء النصوص أي خلف معطف اللغة، ومظاهر القيم الجماليّة أي وراء قشرة النص نفسه، وقد علاها بريق العبارات، ووميض السياقات اللائذة تحت سلطة الحقيقة، والمجاز التي تحبّذه الذاكرة المتلقيّة، لقد وجدتُ صاحب السيرة يشير إلى أنه دوّن ما في كتابه خشية النسيان، وشحوب شحنة الخوف بعد أن اطلق سراحه، فهو يعيش في طيب مقام راغبا في أن تحتفظ تلك السيرة بوهج العاطفة المتوثب كي تكون رفضا حقيقيا لأشكال الاحتلال كلّها، وهذا يعني أن مقاصد تدوين سيرة الجنابي خضعت لسلطة القسمين، فهي بحسب وصف السارد كتبت دفعا للنسيان، وإظهار العاطفة المتوثبة طيلة تلك الأيام، فضلا عن أنه وثّق سردها كي تكون رفضا حقيقيا لكلّ اشكال الاحتلال والذل الذي تلقاه في السجن؛ بمعنى أنّها كانت شاهدا على صناعة التكفير، وولادة إمارة اسلامويّة موهومة داخل تلك السجون التي أنجبت أشكالا مختلفة من الإرهاب، والممارسات التي تدل على احتقار الانسان، ولا سيّما حين يكون بريئا.