محمد غازي الأخرس ومسلك استئصال الثقافة من الجذور

ثقافة 2023/03/14
...

 د. نادية هناوي 


قدم محمد غازي الأخرس في كتابه (خريف المثقف) 2016 شهادة سرديَّة جيليَّة مبنيَّة على العقديَّة، وفيها يتجاوز الكاتب منطق شعراء التجييل العقدي القائل بالقطيعة بين سابق ولاحق وداخل وخارج عراقيين إلى مسلك هو أكثر بطشا وأعني البتر من الأساس، شاملا عموم المثقفين العراقيين بما فيهم الشعراء والأدباء، متخذا من السرد السيري أداة في هذا البتر. 


وقد تقصد الكاتب في هذه الشهادة أن يقلل من صوت الأنا كي يعطي انطباعا بأن كتابه ذو صفة بحثيَّة مع أنَّه بلا منهجيَّة ولا موضوعيَّة وتغلب عليه الانفعاليَّة التي تصل أحيانا حدَّ النزق وهو يصور الثقافة العراقية تحتضر في رمقها الأخير، والمثقف بلغ مرحلته الخريفيَّة التي ليس بعدها سوى الموت. وكل هذا يطرحه الكاتب ببرود يعبر عنه قول سمعه من أحدهم فأعجبه أن يثبته في كتابه وهو (الفرح هو أن تكون خائنا) ونتعجب كيف أعجبه هذا القول الذي إن أخذناه على الظاهر أو تأملناه على الباطن هو صادم بل مخزٍ، وهذا أقل ما يمكن أن يقال فيه.

وما أن يتوغل القارئ في فصول الكتاب حتى يعمَّ فعل البتر الثقافي ليشمل المجتمع العراقي متعلّماً وغير متعلّم، وذلك بوصف الثقافة سلوكا ومعايشة حياتية وفعل حركة ومعيشا عاما يمارسه الجميع. والشعب العراقي كله ــ بالنسبة للكاتب ــ  معادل موضوعي للسلطة البطريركية وأن العراقيين هم:( الذين كانوا أبطال سردية اسميها خريف الثقافة العراقية حيث تصل تناقضات قرن كامل إلى نهايتها المتوقعة: الجميع ضد الجميع. الجميع قتلة والجميع مقتولون الجميع ضحايا والجميع جلادون) ص5. 

وهذا هو التجني الذي فيه تُستأصل الثقافة من قواعدها وتُنسف كل إنجازاتها على مرِّ الأجيال ومن ضمنها الأجيال الشعريَّة. ولا يعد الكاتب نفسه ممارسا العنف الرمزي لكنّه يتهم ثقافتنا بالعنف الرمزي وبـ (الانتهازيَّة والتقلّب ونقل البندقيَّة) ص12، وليس من مزيد يمكن أن نستشهد به، لأنَّ الأمثلة التي قدمناها لثقافة البتر والاستئصال التي اتبعها الكاتب الأخرس واضحة، ولكن نوجز القول في أهم ملامح جمعه بين احتضار الثقافة وخريف المثقف، وتتمثل في ما يأتي: 

1 ) التحامل والتكتل ـ على شاكلة ما لمسناه في شهادات شعراء التجييل العقدي ـ ضد المثقف العراقي عامة والشاعر خاصة، معمِّماً صورة الواحد السلبي والمتسلّط على المجموع العام المغلوب على أمره، من مثل الشاعر (سامي مهدي أكثر الستينيين البعثيين وعياً بهذه المسألة .. ركّز سامي مهدي على هذه المخاطر التي يختصرها الصراع حول قصيدة النثر والموقف من اللغة) ص39، ومصورا الوضع داخل العراق موتا اختياريا، والشاعر مزدوج الشخصية ما بين توظيف لغة الشعر البريئة وبين دمويَّة الشاعر الذي يترنّم بعرس الدم. ومثّل بنفر من المتعلّمين لا يتجاوزون عدد أصابع اليد، مشيدا بهم ومضخما صورتهم وعادا إيّاهم ممثلين للثقافة العراقية وكأن المجموع المثقف في كفة وهذا النفر في كفة ثانية بوصفه حامل لواء الثقافة إلى بر الأمان!!

2 ) ربط الكاتب عمر الثقافة العراقية بعمر الدولة العراقية كي يؤكد وصول الثقافة إلى حتفها في 2003 مع أن الثقافة أبقى عمرا من أية دولة علما انه ما حدد مفهومه للدولة التي تتنوع بتنوع الحكومات التي توالت على إدارة العراق، وكيف يقارن الثقافة بالسياسة والمثقف بالسياسي ومثقفونا وشعراؤنا عُرفوا بالتصادم مع كل أشكال الحكم تسلطا كان أم قيادة. وأوضح دليل على إشكالية العلاقة بين المثقف والسياسة، تشرد مئات الكتاب والمثقفين العراقيين بينما غصت بالمتبقي منهم السجون والمعتقلات ناهيك عما هو مشهود لثقافتنا العراقية عربيا فلقد كان كثير من قصاصينا وشعرائنا فاعلين ينشرون ويحاضرون ويشاركون منذ نهاية القرن التاسع عشر وحتى نهاية القرن العشرين. 

3 ) بسبب نسيان الجوانب المشرقة للواقع العراقي والتي فيها تتكشف صور المقاومة والصمود في وجه الحروب والحصار تعممت صورة مجزوءة وسلبيَّة عن هذا الواقع حتى بدا لا مجال فيه إلا للانقلابات والحروب وصراع الإيديولوجيات والانتفاضات والانكسارات والمد الديني والخيبات والمثقف العدمي. والقصد من وراء هذه المبالغات في التصوير أن لا حياة لمن عاش داخل العراق فكيف بعد ذلك نتوقع ان يكون هناك أدب وقد صار العراق ساحة قتل رمزي تلاشت فيه فكرة الاديب المستقل؟!. ثم كيف للمثقف العراقي أن يكون مستقلا وهو بوعيه التنويري والتزاميته العالية كان من أول الداعين إلى التحرر وبناء حضارة مدنية وهو الثوري الذي ضحى بحياته من اجل التغيير ومواجهة الظلم لا في بلده بل في بلدان عربية أخرى وفي مقدمتها فلسطين ؟!. وهذا ليس شأن المثقف العراقي وحده بل هو شأن كل مثقفي العالم الذين ما سُمُّوا بالمثقفين إلا لوعيهم وتطلعهم إلى حياة حرة وإنسان متحرر.

2 ) افتقار الكاتب إلى الأدلة المنطقيَّة في كل إطلاقاته وتعميماته وتعابيره الباترة والمستأصلة وغير الموضوعيَّة، يجعل كتابه غير مشفٍّ سوى عن إنشائيَّة جوفاء لا طائل من ورائها سوى أنّها تعطينا مثالا للشهادات السيريَّة التي تكتب بتحاملٍ وعصبيَّة فتغدو افتعاليتها خطيرة على الثقافة وأهلها، من قبيل تصوير المهجر هو المطهّر والجنة في خارج العراق وأن المهاجرين هم الناجون من المحرقة.

3 ) التكاتف والإشادة بحشود زحفت نحو عمان من المثقفين العراقيين الهاربين من جحيم العراق الذين غادروا العراق، وتصويرهم على أنّهم أبطال. وطبعاً لا بطولة في الهرب، وإنّما هو الحصار وقسوته التي أجبرت كثيرين على الهرب أما الباقون وهم الأكثر عددا فظلوا يلوكون القهر، رافضين الهجرة ومتمسكين بموطنهم. فأين البطولة إذن أ هي في الصمود ومواجهة الشر أما في الهروب على طريقة أنا ومن بعدي الطوفان؟، وإذا كان في الهروب بطولة فلماذا إذن لم يعد كثير من هؤلاء الأبطال إلى العراق بعد أن رفع الحصار وتخلص العراق من الديكتاتورية كي يمنحونا فرصة الاحتفاء ببطولاتهم الخرافيَّة؟!، أما ذاك القسم من (مثقفي) الخارج الذي ظل يراوح بين الغرب الرأسمالي والعراق المنهوب فمسألته مختلفة تماما. 

4 ) التعاطف مع أدباء الخارج يتضح في هجوم الكاتب على أدباء الداخل، متهما النقد العراقي بالتعبويَّة مستثنياً نفراً يعد على أصابع اليد الواحدة من أناس كانوا (نقاداً) وقتئذٍ وكانوا (طهرانيين) كحيدر سعيد وحسن ناظم (مثال النقاد الأكاديميين الجدد الذين حلموا بتفجير الثقافة العراقيَّة وتحطم الايقونات العتيقة التي شكلتها منذ الستينات) ص56. ـ وهم ما كانوا اكاديممين آنذاك ــ وإذا كان الكاتب قد افترض الثقافة محتضرة والمثقف خرفان، فإنَّ التفجير والتحطيم هما ما يخلص اليه كتابه التخريفي كنهاية بطوليَّة أثيرة يرجوها محمد غازي الأخرس ويتمناها للثقافة العراقية شعرا وسردا ونقدا.. فأية أمنية هي التي تبدو كبراقش التي جنت على

أهلها؟!!..