قلب كعكة الزنجبيل

ثقافة 2023/03/14
...

   ترجمة وتقديم:  هاشم شفيق                                       


 صدر في القاهرة قبل أيام عن {مؤسسة أروقة} كتاب {قلب كعكة الزنجبيل }بترجمة وتقديم الشاعر العراقي هاشم شفيق، وهو قصائد مختارة للشاعر الصربي ألكسندر ريستوفيتش الكبير والمعلم لأجيال ومن ضمنهم الشاعر تشارلز سيميك، احتوى الكتاب على مقدمة وضم في دفتيه ثلاثين قصيدة. 


ولد الشاعر الصربي الكبير والرائد ألكسندر ريستوفيتش 1933 ـ 1994 في  مدينة كاكيك، وهي مدينة كبيرة الى حد ما، وتبعد بضعة أميال جنوب العاصمة بلغراد، وريستوفيتش يُعد من كبار الشعراء الصرب، وهو من أوائل الشعراء المجدّدين في الشعر الصربي، والسلافي كذلك، وقد أثّر في أجيال شعرية عديدة، ومنهم الشاعر الصربي المعروف تشارلس سيميك، كما قال هو في مقدمة هذا الكتاب الذي اختاره وقدّمه الى أهم دار نشر إنكليزية " فيبر أند فيبر"،  وهي دار تهتم بنشر أدب كبار الكتاب والشعراء في العالم، ولا سيّما الكتاب والأدباء والمؤلفين الناطقين بالإنكليزية، أو المترجمين من لغات أخرى الى الإنكليزية، كما هو حال شاعرنا الصربي ريستوفيتش .

بعد تخرجه من الجامعة ونيله شهادة عليا في الآداب، عمل الشاعر مدرّساً في مدينته كاكيك، وخلال تلك السنوات كتب الشاعر العديد من المقالات والدراسات والأبحاث الأدبية وأنتج العديد من الدواوين الشعرية في تلك المرحلة الغنية من عمره الذي يعد قصيراً نسبياً الى قياس العمر في هذه الأزمنة.

أما السنوات الأخيرة من حياته فكانت من نصيب دار نشر للأطفال، عمل فيها محرّراً ومشرفاً على نشر كتب مختصة بأدب الطفل اليوغسلافي حينذاك.

في ظل هذا النشاط المتزايد، وانتشار شعره على نطاق واسع، نال الشاعر جوائز تقديرية وتكريمية ومادية عديدة، ونال جوائز رفيعة أخرى، تمنح لقلائل من الكتاب في عموم صربيا، وللسان الناطق بالسلافية.

أصدر الشاعر خلال حياته سبعة عشر عملاً شعرياً، وكانت ملهمة ومؤثرة في الكثير من الشعراء الناطقين بالسلافية، وتقع ضمن منظومة الشعر الأوروبي المنطوي على أساليب وتشاكيل ومدارس شعرية مختلفة، متطورة وحديثة، وتعكس اتجاهات ومناهج وطرق الحداثة الشعرية، وتنوّعها في جلّ المعمورة الأوربية والعالمية . 

من هنا نلمس في شعر ريتسوفيتش ذلك الاتساع، والشمولية، والتعددية الفنية، والتعددية الجمالية والصورية، والتحوّلات المعنوية في البنية الشعرية، لقصيدته، الغامضة والمُلغزة من جهة، والمتسمة أحياناً بالوضوح، وباللغة البلورية من جهة أخرى .

يكتب ريستوفيتش عن حياته الشخصية، ويُخبر في قصائده عن أعماقه وروحه المثقلة بتاريخ طويل للحياة الصربية والإنسانية، يكتب عن الريفيّين، ويعرف معرفة الخبير بالعوالم النفسية، الروح الصربية، يعرف ناسه جيداً ويعرف تاريخه جيداً، وهو مُلم بالحوادث الماضوية، وبالخطوب والكوارث التي مرّت بالشعب والشعوب والأقوام التي سكنت هذه الأرض السلافية، يكتب الماضي والبدايات الأولى للتكوين، كما يكتب عن عناصر الحياة اليومية، وعن الزمن الحالي الذي يمرّ به هو، وتمرّ به البشرية، فهو شبيه بالشاعر الأميركي روبرت فروست الذي كتب عن الطبيعة، وحيّاها وحيّى ناسها وسكانها العائشين بين الأشجار والأوراق والغصون والأنهر والحقول والسماوات الزرقاء والبراري والواسعة، وهو يبدو في ذلك كله كعامل في مصهر، يصهر الأشكال والأساليب والرؤى، في مختبره العجيب الذي يدعو الى التأمل والدهشة في هذا الصنيع الجمالي والخلق الإبداعي المتميز، من شاعر مخلص لفنه وعالمه الشعري، ومخلص للروح البشرية، من رجال ونساء وحيوانات وعناصر الحياة والطبيعة والكوكب 

الأرضي .

وهو كما يصفه المُقدّم والشاعر الكبير تشارلز سيميك، على أنه مثل شخص وحيد في مسرح صامت ومتنقل، يدور ويبحث عن شيء ما والضوء مسلط عليه، أو هو يبدو مثل ممثل من الأفلام الصامتة، يترك لنا مساحات من الصمت في حواره الداخلي، هذا فضلاً عن وجود الكثير من صور العنف، والمعاناة، والمآسي التي تلّم ببعض القصائدّ وتشحنها بالأفكار والتصوّرات والبنى الرؤيوية، فهو يجد في الضعف قوة، ولذلك تخللت قصائده البشاعة والجمال 

معاً.

فهو على سبيل المثال يختلف عن غيره، من عشرات الشعراء الذين مرّوا في القرن العشرين، وكانوا يؤمنون بالملاك والبراءة والعفاف، بينما هو رافق الشيطان وتأمله وعدّه شخصاً منافساً للملاك، مثل أي شخص يعادي شخصاً آخر، وحين عاشر الشاعر الجمال، سار أيضاً مع البشاعة وصاحبها، وحين رأى الحمل ووزنه بعينيه، عاصر كذلك عالم الذئبنة المتخم بالعواء، ورافق تصوراته للمحيط والعالم. 

ومن هنا قال عنه الناقد راسل أديسون، أن المَشاهد الساخرة والدعابة السوداء، في شعر ريستوفيتش، المرحة والجميلة، هي مستمدّة من عالم تراجيدي، يشي بالمأساة والملهاة معاً .

وبذا يكون كبار شعراء العالم، وأبرزهم أسيرو التجارب الإنسانية، مضافاً إليها وهذا الأهم تراجيديا تجاربهم الشخصية، محنهم اليومية، فالشاعر عموماً تتضاعف لديه مرامي الحياة وأهدافها، فكل خطب ومأساة وجائحة، تنعكس مباشرة على الشاعر والفنان عموماً، ولهذا نجد الشاعر يمزج الخاص بالعام، والذات بالموضوع، ويدمج ببراعته الفنية واللغوية والتعبيرية المراحل والأزمنة والأوقات، لكيما ينتج زمنه الجمالي، متوّجاً بالإكليل البشري، فكل ما يمرّ في الزمان والوجود سيظهر لدى الشاعر في صورة أخرى، صورة مغايرة، هي صورته المُتمَرئيَة في صورة الجميع، صورة التماهي مع الآخر، والذوبان في الغَيْرية، في المقابل والمحاذي والقريب الذي هو مثلك، الذي سيكون في النهاية هو أنتَ، فهو لم يكن سوى الملامح الأخرى لا غير، ولكن الروح هي هي، والنفس هو هو ، فالكائن البشري يسعى في كل مكان الى التآخي، والتآدُم مع الآدمي الآخر، أو الشبيه به، ذاك الذي يحمل القلب والدم والعين، فكل تجربة شخصية للآخر هي الشبه لتجربته الذاتية، بينما الاختلاف يكمن في المروي والسرد والمحكي، ولكن الطبيعة الآدمية هي هي لا تتغير، قد يتغير السلوك والمنحى والملمح، ولكن اللقاء سيغدو واحداً والخواتيم والبدئيات تشمل الجميع، بدء المَحَط والبزوغ والولادة، وخاتمة الكائن، ثمّ تصالحه البشري مع التراب كمهد نهائي، ليكون الرمز الجماعي لا محيد عن ذلك، ومن هنا تأتي الأسطورة التي تخص الشاعر، في خلق عالمه، عالم الإنسان الواحد مع تجاربه ويومياته ومناسكه، عالم التشظيات المجموعة في الشاعر، الموسوعة الكائناتية التي تسكن الشاعر، الشاعر الخلاق المُعطي والمانح والمُسوِّي على مرّ الأزمنة والتواريخ، وهنا الحياة ستكون الشاهد الأول للشاعر، ستكون عشيقة الشاعر، والفنان دائماً ودون

تردّد .

وفق هذا الأفق المرآوي يتجزأ الشاعر في المرايا، يرى ويخلق ويجترح التكاوين والتشاكيل والأنسقة، مثل هوميروس، ومثل شكسبير ومثل المتنبي ومثل تي أس إليوت، ومثل ريتسوس ونيرودا ورامبو وغوتة وطاغور ودانتي وصولاً الى السياب، ومن ضمن كوكبة كبيرة ستمتد الى بلدان وعواصم كثيرة، سنجد بين هذه الدفائن الضوئية، الكنزيّة، أسماء لشعراء قد نسمع بهم للمرة الأولى، ولكنهم شعراء كبار ومتميزون ونادرون واستثنائيون، من أمثال نينا كيسيان، وأدريان ميتشيل، ودانييل هوز، وروزيه فيتش، وتشارلز سيميك وشاعرنا الذي نقدمه لكم في هذه المختارات، الشاعر الصربي الكبير ألكسندر ريستوفيتش.