في القسوة

ثقافة 2023/03/14
...

 كاظم الحسن  


معظم كتابات كنعان مكية،  تدور في فلك القسوة ومنها القسوة والصمت، جمهورية الخوف وهي تتحدث عن الحقبة الصدامية، بكل بطشها وتنكيلها بالمعارضين وتصفيتهم وألحاق الأذى بعوائلهم وكل من له صلة بهم، على طريقة الحجاج (من تكلم قتلناه ومن سكت مات بدائه غما) أوخطبة زياد بن ابيه: 

                                         

لآخذن الولي بالمولى والمقيم بالظاعن والمقبل بالمدبر والمطيع بالعاصي حتى يلقى الرجل منكم اخاه فيقول انج سعد فقد هلك سعيد). 

ولايخلو هذا  الكتاب عن هذا المنحى ولكن بشكل اعم، حيث يعرج على تاريخ العراق القديم ويستل منه حكايات الحروب ووحشيتها . نقرأ مثلا في النقوش الآشورية المعروضة عن الملك آشور بانيبال بعد تدميره مدينة بابل العام 648 ق.م ،هذه الكلمات: (أما أولئك الرجال...الذين تأمروا شرا ضدي، فقد قطعت ألسنتهم ... أما الآخرون الذين ظلوا على قيد الحياة، فقد حطمتهم ها أنا ذا اطعم أشلاءهم للكلاب، للخنازير... لطيور السماء واسماك المحيط) . 

وفي تعريفه للقسوة: " إلحاق الألم الجسدي بالدرجة الأولى، والنفسي بالدرجة الثانية، عن قصد وإرادة،بفرد أو أفراد هم بالضرورة في موقع ضعف وعجز مقارنة بالجهة المؤذية، وذلك لاهداف اهمها التخويف والمعاناة الشديدة التي قد تصل حد تدمير الذات". 

ومن فصول الكتاب مايطلق عليه "الافكار الشيطانية "  ويعبر مكية عنها بالقول:

نفهم أن الانسان حيوان اجتماعي بالطبع، ولكن كيف نفهم طبيعة الانسان بالمفرد،في وحدته داخل عقله وأصول ضميره وغرائزه؟

لماذا يظلم الانسان جاره في الصباح ويحبه في المساء؟

لماذا لايريد لأخيه ما يريده لنفسه؟ 

لماذا يعذب الحيوان دون سبب ويلتذّ وهو يشاهد آلامه ؟

لماذا يعمل احيانا ضد ما هو في  مصلحته الشخصية، عكس نظريات كل علماء الاقتصاد ؟

لماذا يبدو غير عقلاني ولايمكن التنبؤ بافعاله أحيانا ؟. 

وينقل عن الشاعر بريخت: في الايام السود، هل سيكون هناك غناء؟ 

نعم ،سيكون هناك غناء، عن الايام السود. وفي هذا الفصل يتحدث المؤلف عن المظلومية ويصفها: "الحب المفرط للنفس ، او للذات العربية "حزب البعث"، او احزاب الأسلام السياسي الذي بات وضع هذه المجتمعات يتجه من سيئ إلى أسوء ، قد ابعدنا عن التأمل العميق في ظواهر تخلفنا ،مثل قسوة مجتمعاتنا وفقرها وقمعها المتفاقم للأقليات واضطهادها للمرأة الذي بلغ في السنوات الاخيرة حد العبودية. 

كل هذا ترك العالم ضائعا فكريا وثقافيا وغاطسا من رأسه الى اخمص قدميه في قضايا "الهوية "و" الاسلام السياسي "و"المظلومية "الكفاح المسلح "و الرفض" "ونسبية الثقافات " وغيرها من الشعارات الجوفاء .

أن اسوأ ما في المظلومية ان نجعل المظلوم في مخيلتنا قدوة او مصدر اعجاب ،بل مثلا اعلى في الحياة .

يتناول مكية في هذا الفصل ظاهرة القسوة والفقر :"القسوة هي حالة قصوى من الوجود المدقع كالفقر المدقع . 

القاسم المشترك بين تغلغل القسوة والفقر قد حولا العيش الذي يفترض ان يكون امرا مسلما به ، الى صراع من اجل البقاء على قيد الحياة. 

اي ان العيش أخذ يتحول الى حالة شاذة غير طبيعية كان يفترض اننا تخطيناها منذ وقت طويل ،الانسان تحت التعذيب أقرب الى الفقير الذي يبحث عن لقمة العيش لإطعام عائلة وأطفال بدولارين في اليوم . 

"مواطنة مشوهة" عنوان هذا الفصل الذي يلقي فيه الكاتب باللوم على ثورة 14تموز 1958 ويعد ان الشرخ الاول للمواطنة في العراق جاء من خلال هذا الحدث الذي عمد فيه الجيش وهو واحد من ثلاث مؤسسات أسسها الانكليز في الدولة العراقية، إلى إلغاء المؤسستين 

الاخريين: البرلمان والنظام الملكي. وبذلك انقطعت الدولة الوليدة عن مسارها التاريخي، واجتاحت الايديولوجيات الثورية الساحة العامة للافكار ، الامر الذي أكل من جرف توطيد فكرة العراق الناشئة حديثا. 

الشرخ الثاني كان انقلاب 17تموز 1968 إذ استبدلت مناهج التعليم ومؤسسات الدولة فكرة العراق بمثاليات العروبة والثورة العربية . 

يعتقد الكاتب في عنوان هذا الفصل الذي اختاره وهو" الذاكرة بعد الفظائع " انّ أرث فرويد أول من فتح الموضوع في القرن العشرين ، وما استلخصته من فكرة يكمن في استعارته التأسيسية للذاكرة ،وهي السجن . 

هذا السجن في الذات ، حسب فرويد يحتوي على ذكرياتنا ورغباتنا ومشاعرنا الكريهة والمؤلمة، وهي تحت سيطرة عقل باطني لاواع بنفسه. 

مفاتيح السجن بيد العقل الباطني الذي هو الرقيب والسجان ولذلك فان ذكريات الحروب والمآسي تبقى فاعلة في الذاكرة وليس من السهل الخلاص منها .