عالم سياحة تايتانيك المُربحة

بانوراما 2023/03/14
...

 كيتي روزينيسكي

 ترجمة: مي اسماعيل

ما بين تجارب سينمائية غامرة إلى محاكاة للاصطدام بجبل الجليد؛ لطالما ألهم مصير السفينة تايتانيك نوعا من "السياحة المظلمة" والمُربحة. وباعادة عرض فيلم "تايتانيك" الشهير للمخرج "جيمس كاميرون" مجددا بعد نحو ربع قرن؛ حرص المعجبون الأوفياء بمنتهى الاحساس على إعادة إحياء سيرة السفينة المنكوبة.  كان فيلم كاميرون لعام 1997 موزونا بشكل مثالي لإحداث بصمة لا تمحى من عقول الشباب سريعة التأثر: أبطال رومانسيون وماسة زرقاء وزنها 56 قيراطا؛ مزيج قوي من الكارثة المروعة والحب المنكوب، على وقع اغنية جميلة.شاهد آلاف المتفرجين الفيلم مرات متعددة؛ مما لعب دورا في كسره الأرقام القياسية للأرباح (نحو 1.84 مليار دولار تقريبا) عالميا؛ هذا اضافة لأرباح أشرطة الفيديو. 


أُعيد مؤخرا عرض نسخة معدلة من ملحمة كاميرون في دور السينما؛ احتفاءً بربع قرن من النجاح. لكن في هذه الأيام لم تعد زيارة السينما الوسيلة الوحيدة لاحتفال المعجبين والتمتُع بافتتناهم. تزامنت إعادة عرض الفيلم مع ازدهار للمناسبات والمعارض والرحلات التي تحمل طابع مشهدية تيتانيك.. وحتى جولات الغوص. جاء الكثير من تلك المناسبات بعد بحوث جرى بعضها بشق الأنفس وتجذر في الأصالة، وسط أجواء متصاعدة من الحماسة. 

فقد أقيم نموذج للسفينة "تايتانيك بلفاست" في حوض بناء السفن السابق "هارلاند ووولف"، "تماما في الموقع التاريخي الذي شهد بناءها"؛ كما أوضح "إيمير كيرني" رئيس المبيعات والتسويق؛ الذي مضى قائلا: "هناك موقع مشاهدة ممتاز فوق المزالق.. ويمكن بالتحديد مشاهدة المكان الذي نزلت فيه السفينة الى الماء للمرة الأولى". جاء ايضا معرض تايتانيك المتنقل "ميوزيليا"، الذي وصل الى لندن العام الماضي وأصبح الآن في نيويورك، والذي عمل مع بعض المؤرخين (مثل "كلايس جوران فيترهولم") وتمكن على مدار سنوات من جمع مجموعة مهمة من مخلفات السفينة؛ كانت قد جاءت من الناجين، أو أدوات شخصية. وصاحبتها تسجيلات صوتية لمقابلات مع  الناجين. 


إعادة تمثيل الأجواء

واتخذت بعض المسارات النهج التجريبي؛ حينما زار المنتج الفني "بوبي كول" موقع "تايتانيك بلفاست" واستلهم ألبوما موسيقيا.. "تتبع تقدم تيتانيك منذ بنائها إلى الغرق، ثم إنقاذ الناجين من قبل السفينة "كارباثيا" ووصولهم إلى نيويورك. ثم اتسعت التجربة لتصير "مسرحا غامرا" وتجربة تناول الطعام التي تجوب بريطانيا الآن.. هنا يأكل الضيوف طعاما من قائمة الطعام التي أكلها ركاب تايتانيك، ويخدمهم ممثلون يقدمون شخصيات حقيقية. 

وكانت شركة "سفن ستار لاستثمارات الطاقة" الصينية خلال العام 2014 قد أعلنت أنها تخطط لبناء نسخة بالحجم الحقيقي من السفينة في منتجع  رومانديسيا بمقاطعة سيتشوان، ولجأت الى مصمم الانتاج "كيرتس شيل" (المرشح لجائزة إيمي الفنية) لإعادة تقديم الديكور الداخلي بمنتهى الدقة؛ وصولا الى مقابض الأبواب وتراكيب الاضاءة. وكانت هناك ايضا مخططات باهرة لاستضافة حفلات وترفيه من طراز "لاس فيغاس"؛ ومحاكاة للاصطدام بجبل الجليد وتمثيل واقعة الغرق؛ استعانة بتأثيرات الصوت والضوء. وإذ حاصره التأخير والجدل؛ يُعتقد ان المخطط الذي تبلغ قيمته 150 مليون دولار تأجل الآن. أما الملياردير الاسترالي "كلايف بالمر" فقد كشف ايضا عن خطة لإطلاق السفينة "تايتانيك- 2"، لتكون نسخة عن سابقتها وتقتفي رحلتها ايضا. ولو كنت تملك ربع مليون دولار جاهزة؛ لأمكنك الذهاب الى معرض "بوابة المحيط" هذا الصيف، ورحلة من ثمانية أيام للغوص واستكشاف حطام السفينة بنفسك. 


{الكذب الرومانسي الفظيع}

مهما يكن النمط؛ فيبدو أن هذا الازدهار منطقي من الناحية التجارية.. فجيل الألفية هم المحرك الأكبر لاقتصاد هذه التجربة؛ ووفقا لمسح أجرته شركة "تيكيت ماستر-Ticketmaster" عام 2014 فإن 78 بالمئة من الزبائن هم ممن ولدوا بين أعوام 1980-1996؛ وسيختارون إنفاق الأموال على تجربة أو حدث مشوّق بدلا من شراء شيء ما. وهم ايضا جيلٌ تربى على تجربة تايتانيك؛ وهذا مخطط ممتاز.. لكن الافتتان الثقافي الدائم بهذه المأساة متجذر عبر قرن من صناعة الأساطير، كما إن استكشاف الظاهرة الحالية يتطلب العودة لما هو أبعد من صدور فيلم كاميرون. بدأت الرواية على صفحات الصحف؛ فبعد فترة وجيزة من غرق السفينة في عام 1912، ركزت الصحف البريطانية على قصص بطولة الطاقم (وغالبيهم من البريطانيين). ودخل الكاتب المسرحي "جورج برنارد شو" في حرب كلامية مريرة مع مؤلف روايات شارلوك هولمز "آرثر كونان دويل"؛ بعد إدعائه أن الكارثة أدت إلى "انفجار الكذب الرومانسي الفظيع". وهذا كله؛ كما يبدو؛ كان لتفادي التوقف عند الدعاية كارثية السيئة لصناعة بناء السفن البريطانية؛ في وقت كانت فيه القوة البحرية هي كل شيء. 

ظهرت سلسلة من مذكرات الناجين على مدى العقود القليلة التالية، وسيل منتظم من الأفلام؛ كان منها اقتباس نازي نال سمعة سيئة؛ أُنتج لعرض شرور الامبريالية البريطانية. توج ذلك السيل الدراما الوثائقية "ليلة لا تُنسى"عام 1958؛ والذي ما زال يُعد النسخة الأكثر دقة تاريخية. ثم جاء اكتشاف الحُطام عام 1985؛ بقيادة عالم المحيطات "روبرت بالارد". خلال السنوات التالية أُقيمت معارض رئيسية في ألمانيا وأميركا، قوامها القطع الأثرية التي انتشلت من السفينة (ضد رغبة بالارد كما قيل).

وحين عُرض فيلم كاميرون كان الاهتمام قد بلغ حدا محموما. وحتى في ذلك الحين كان هناك تعاون بين الفيلم والمتاحف؛ إذ أمكن لزوار معرض تيتانيك في فلوريدا الحصول على خصم على تذاكر الفيلم في الولايات المتحدة، والعكس صحيح. وحين افتتحت استوديوهات "فوكس" الاميركية متنزهها في استراليا عام 1999؛ كانت نقطة الجذب فيه مشهد تايتانيك.. حيث قدمت التجربة عبر نماذج بالديكور من مشاهد الفيلم؛ وكان بامكان الزوار التجول بين صالات الدرجة الأولى وقمرة القيادة، ومعايشة ارتجاف القمرة واندفاع الماء إليها من الجوانب. وهو ما وصفه مراسل استرالي قائلا: "الزوار مدعوون لتجربة معجزة صناعة الافلام؛ والسباق المحموم للبقاء على قيد الحياة!". 

دامت تلك التجربة لمدة سنتين؛ لكن الأسئلة الأخلاقية التي أثارتها ما زالت تهيمن على العديد من مشاريع اليوم.. والسؤال هو: هل من الصواب تحويل الموت المأساوي لنحو 1500 انسان الى تجربة ترفيهية؟ 


المنظور الاخلاقي

في العام 1996 صاغ الاكاديميان "ج. جون لينون" و"مالكولم فولي" مصطلح "السياحة المظلمة" لتلخيص الجاذبية المرضية تجاه المواقع المرتبطة بالموت والمآسي؛ من منطقة الحظر النووي لتشيرنوبيل إلى مدينة بومبي (التي دفنها بركان فيزوف- ايطاليا. المترجمة)؛ وحدد خبراء آخرون منذ ذلك الحين حادثة غرق تايتانيك على أنه بداية هذه الظاهرة. 

ووفقا لتحليل أجرته مؤسسة "رؤى السوق المستقبلية- Future Market Insights" في العام الماضي، فمن المتوقع أن تصل قيمة هذا القطاع المروع إلى نحو 37 مليار دولار على مدى العقد المقبل. تشرح د."شارلوت راسل"؛ وهي عالمة نفس إكلينيكية ومؤسسة مشروع "علم نفس السفر": "لكوننا بشرا، نهتم طبيعيا بالموت والرعب. والبحث عن مواقع "للسياحة المظلمة" يسمح لنا بمقاربة موضوع الموت بطريقة "آمنة" بالنسبة لنا. فنحن نعرف ان الناس

لا يتعاملون بانفتاح مع الموضوع عندما يؤثر فيهم مباشرة". 

وترى راسل ان هناك دائما خطورة أن ينظر الناس الى تلك التجارب على انها.. "نوع من المرح؛ لا سيما إذا تم تسويقها بهذه الطريقة أو إذا تم تقديم الموقع بطريقة معينة من خلال الثقافة الشعبية". وتضيف قائلة ان الدوافع وراء "السياحة المظلمة" لا يتحتم ان تكون مظلمة دائما؛ فهي قد تهدف.."الى التعاطف والرغبة في تعليم الذات"؛ وهي أمور تقود اهتمامنا.  

ليس الجدل عن كيفية التعامل مع مأساة تايتانيك بالجديد؛ فحينما أنتُشلت أغراض من حطام السفينة خلال عقد الثمانينات؛ انتقدت "إيفا هارت" (وهي احدى الناجيات).. "الطمع واللامبالاة" من "صيادي الثروات والجشعين والقراصنة". ودار جدال قانوني مطول حول إمكانية بيع قطع من الحطام في المزاد... قال بعض المشاهدين في عروض تايتانيك المختلفة ان ما يجري أمر لا أخلاقيا؛ ولا يحترم الارواح التي زهقت في المأساة. 

كما ان تلك المأساة توضح للجميع كم ان الحياة هشة وفقدانها أمر سهل. انها ليست بالحقيقة السهلة؛ فلا عجب من أن العديد من مشاهدي الفيلم قالوا انهم شاهدوه مرارا؛ آملين ان تكون النهاية مختلفة ذات مرة. 

صحيفة الاندبندنت البريطانية