ناشرون: نحن نعيش في زمن التسطيح والمواجهة الفرديَّة

ثقافة 2023/03/15
...

 

البصرة: صفاء ذياب


لم تمر فترة ذهبيَّة على المكتبات ودور النشر العراقيَّة مثل المدّة التي تلت سقوط النظام السابق وصولاً إلى العام 2019، هذه السنوات التي شهدت ظهور دور نشر جديدة بروح مغايرة بعيداً عن الرقابة والسلطة الحاكمة.

ومع الانبثاق الجديد لعالم النشر، ظهرت مكتبات انتشرت في المدن العراقيَّة بعيداً عن شارع المتنبي- الأشهر في عالم الكتاب عربياً- ومعها أيضاً انتشار المكتبات في أغلب المدن العربية…


غير أنَّ أواخر العام 2019 ومع بداية التظاهرات العراقيَّة عاشت هذه المكتبات ودور النشر ركوداً ملحوظاً بسبب الأوضاع الخطرة التي مرّت بها مدننا.. الأمر الذي دفع الكثير من المكتبات لإغلاق أبوابها لشهور طويلة، ومع بداية فترة الحظر مع انتشار وباء كورونا، أخذت المكتبات ودور النشر طرقاً مختلفة من أجل البقاء فقط، وهو التسويق الإلكتروني على الرغم من محدوديته حينها…

ما حدث للمكتبات ودور النشر العراقيَّة في زمن كورونا لا يختلف عمّا حدث لدور النشر والمكتبات العربيَّة، فضلاً عن اختلاف مستويات المعارض العربيَّة ما بعد كورونا، الأمر الذي جعل الكثير يتساءل: بعد ارتفاع أسعار ورق الطباعة، والضعف الواضح في مبيعات المعارض العربيَّة، والمحاولة في تسطيح القرّاء فكرياً من خلال انتشار كتب بعيدة عن المعرفة والإبداع… هل هناك قصد في إنهاء النشر العربي؟

خطة إنقاذ

يرى الأستاذ زاهر هاني السوسي، مسؤول الأنشطة الثقافيَّة والمهنيَّة في هيئة الشارقة للكتاب، أنَّ سوق النشر العربي أصبحت من أصعب الأسواق فكرياً وتجارياً، وأصبحت هذه السوق عبئاً على صناع الثقافة وصناع المحتوى، وتداعياتها أصبحت كثيرة لأسباب عدّة تضع الناشر وصانع المحتوى في حلقة مفرغة يبحث فيها عن الحلول للنهوض بهذه الصناعة.

فإنَّ الناشر الحقيقي وصانع المحتوى الحقيقي عندما يتمسك بمبادئ المهنة ويلتزم بالمحتوى الجيد والراقي ويتأمل بأن يصل هذا المحتوى إلى القمة فيتفاجأ بأنَّ القارئ العربي لا يلتفت إليه، إلا من رحم ربي منهم، هم من يقدّر هذا المحتوى والذين أصبحوا في وطننا العربي من القلائل، وفي المقابل يتفاجأ الناشر وصانع المحتوى الهادف بأنَّ بعض دور النشر ليس فيها قيمة يمكن أن تشجّع القرّاء على الاقتناء منها، وهذا يؤدي إلى بناء جيل عربي لا يهتم إلا بتوافه الأمور، وبالتالي، فإنَّ الناشر له الدور الأكبر في نشر هذا المحتوى الضعيف ولا يقدم أيَّ أهداف أو أفكار تفيد عقول القراء في عالمنا العربي.

ويضيف السوسي: التحديات الاقتصاديَّة كارتفاع أسعار الورق وإيجارات المعارض والتكاليف التي يتكبّدها الناشر ليصل إلى سوق بيع الكتاب أصبحت عبئاً عليه، وبالتالي أصبح يبحث عن الحلول الأسرع والأكثر مبيعاً لتغطية هذه التكاليف وهي (المحتوى السريع) الـTake Away أو محتويات أصحاب (الترند) على منصات التواصل ليجمع أكبر عدد من المتابعين ويحصل على أكبر رقم من المبيعات باستغلال هؤلاء المشاهير في الدعاية لكتبه ودار النشر الخاصة به.

إنَّ العامل في حقول الثقافة تقع عليهم المسؤوليَّة في نشر الأفكار الهادفة وتنمية وتنوير عقول قراء الوطن العربي أو هدم وتفكيك هذه العقول وتوجيهها إلى ما هو تافه وغير مفيد من أجل فقط زيادة المبيعات وإنقاذ ما يمكن إنقاذه من اقتصاد سوق النشر العربي.

تسطيح المعرفة 

ومن وجهة نظره، يبين الناشر السوري أيمن الغزالي، مدير دار نينوى، أنَّ غلاء أسعار الطباعة والورق كمادة أساسيَّة تدخل في عمليَّة إنتاج الكتاب ليست المشكلة الأساسيَّة، بل إنها تكاد تكون مسألة طبيعيَّة.

وحتى نستطيع تقييم المشكلة أساساً يجب تصنيف وتحديد العوامل الأساسيَّة وتأطيرها حسب مدى تأثيرها في صناعة النشر.

ويعتقد الغزالي أنَّ أهمَّ مشكلة هي غياب المشروع الوطني والقومي كبديل ورافع ستراتيجي يحمل تطلعات الناس.

إنَّ غياب المفاهيم والقضايا الكبرى في حياة المواطنين في الوطن العربي ولاسيما بعد انهيار الاتحاد السوفييتي وفشل المشروع الليبرالي والقومي والوطني وانحسار الحريات وظهور التطرفات الدينيَّة ومحو الهويَّة وتبديل القيم والمفاهيم ساهمت بشكل كبير في فشل العمليَّة الفكريَّة والثقافيَّة في سؤال اللاجدوى، أضف إلى ذلك أنَّ الحكومات العربيَّة سحبت يدها من المشروع الثقافي ولهذا وقع على عاتق دور النشر القيام بهذه المهمة الصعبة التي تحتاج إلى تضافر جهود كبيرة وستراتيجيات لإدارتها وتحقيق أهدافها.

فترك العمليَّة الثقافيَّة بيد الناشرين الذين يتسابقون بمنافسة غير شريفة لإنتاج كل ما هو رائج (البيست سيلار) وإنتاج الغث والرديء وتوسع حلقة النشر أدى إلى تسطيح العمليَّة الثقافيَّة وساهم ذلك في انحدار ذائقة القراءة التي تتعرض لامتحان صعب، كما أنَّ الرقابة الحكوميَّة والمجتمعيَّة على الكتب وتبيان الستراتيجيات حول الكتب ومضامينها وعدم وجود برامج نوعيَّة للقراءة منذ الصفوف الأولى في المدارس والمناهج المدرسيَّة والجامعيَّة التي لا تعتمد على البحث ساهم في انحسار الطلب على الكتاب وتراجع الحوار، كما أنَّ الشلليَّة ومنصات البيع والعرض ومعارض الكتب وارتفاع تكاليف الشحن والتخليص والجمارك والمعارض العربيَّة والانتقال والتنقل وسعر الورق والطباعة والترجمة ساهم في تشويه عمليَّة إنتاج وتسويق الكتاب. فضلاً عن أنَّ الحروب والأزمات الاقتصاديَّة والاجتماعيَّة وتبعات الحروب ووسائل التواصل الاجتماعي ساهمت بشكل كبير في تسطيح المعرفة وتشويه عمليَّة إنتاج الكتاب وتسويقه.

مظاهر خادعة

وبحسب مدير دار سطور بلال محسن، نائب رئيس جمعيَّة الناشرين والكتبيين في العراق، فإنَّ قطاع النشر يعيش منذُ سنوات انحداراً متواصلاً نتيجة لعدّة عوامل لا تنفصل عن الواقع الاجتماعي الذي تعيشه مختلف البلدان العربيّة، وبرغم ذلك نشهد تزايداً مرتفعاً في عدد دور النشر، لكنَّ النقطة المشتركة بين معظم هذه الدُّور هي كميَّة الكتب التي تصدرها وهي كتب لا تمتُّ بصلةٍ إلى المعرفة بمفهومها الشَّامل، إذ تعيش هذه الدور على جيوب الكتَّاب من دون النظر في قيمة المحتوى ومن اتِّخاذ أدنى جهد في تقييم الكتاب أو تحريره أو العمل عليه، وهذا ما جعل معارض الكتب تكتظ بالكتب الرَّديئة والكتب التي تسهم في تسطيح الوعي وتزييفهِ أحياناً، والسبب في نظره أنَّ معارض عربيَّة كثيرة لا تكترث بما يقدَّم، بل تولي اهتمامها بمظاهرَ خادعة تخفيها أرقام أكثر الكتب مبيعاً وعدد الزُّوَّار.

وفي اعتقاد محسن لا يمكن لدور النشر أن تنهض من رمادها إلَّا بإعادة النظر في قيمة الكتب التي تُقدَّم وجدواها على القارئ كما توجَّب اليوم تدعيم مؤسسات النشر بسنِّ قانون يُطبق عربيّاً ضد عمليات القرصنة والتزوير التي دمَّرت قطاع النشر وساهمت في إفلاس العديد من المؤسسات العريقة.

مجتمعات استهلاكيَّة 

ويشير الناشر الأردني جهاد أبو حشيش، مدير دار فضاءات، إلى أنه في الوقت الذي نعرف فيه جميعاً، أنَّ صناعة النشر صناعة لا تقف وتستمر بذاتها فقط، بل تحتاج إلى دعم المؤسسات الرسميَّة والمدنيَّة لتتمكن من تمثيل بلدانها، والقيام بدورها الرئيس المتمثل في إثراء المشهد الثقافي والإبداعي، والمساهمة في خلق مجتمع متوازن وقادر على الصعيد المعرفي والإبداعي.

في هذا الوقت بالذات، الذي نحيا فيه تضافراً حقيقياً لقوى الشد العكسي، نجد أنَّ المؤسسات الرسميَّة في الوطن العربي بأغلبيته، لا تلقي بالاً لارتفاع أسعار الخامات، كالورق مثلاً الذي تضاعفت أسعاره فجأة، غير عابئة بما يعنيه ذلك من ارتفاع سعر الكتاب، وبالتالي فقدان النسبة الضئيلة من القراء في الوطن العربي، التي لا تتجاوز 7%، بالرغم من أننا وفي الوقت نفسه نشهد هدراً غير مبرر للأموال العامة في ما لا يبني ولا يؤسس إلا لمجتمعات استهلاكيَّة تابعة وجاهلة. مما يخلق أجيالاً تفتقد القدرة على السؤال، فتندفع إلى السطحي والتافه والبراق الذي يؤثث لخراب فكري واجتماعي موجه، لا يخدم إلا أعداء هذه الأمة.

وقد يخلص الباحث في تفاصيل صناعة النشر العربي إلى أنَّ المؤسسة الرسميَّة تحرص على تصنيع ما يشبهها في الضحالة، وما يخدم توجهاتها بطريقة أو بأخرى، فهي لا تتقصد إنهاء هذه الصناعة قدر ما تتقصد خلق صناعة نشر ضعيفة وتابعة ومفرغة من القدرة على القيام بدورها الحقيقي.

سلعة المترفين

ويرى الناشر المصري محمد البعلي، مدير دار صفصافة، أنَّ صناعة النشر العربي تواجه تحديات كبيرة كانعكاس للتحولات الكبيرة التي تواجهها المجتمعات العربية؛ التحولات الاقتصاديَّة والاجتماعيَّة والديموغرافية، ومن أهم هذه التحديات على الجانب الاقتصادي.. التضخم المنفلت الذي قفز بأسعار مدخلات إنتاج صناعة النشر بشكل كبير لاسيما خلال الأعوام الأخيرة الذي شهد انهيارات لعدد من العملات العربيَّة ما تحول إلى ارتفاعات في الأسعار ويهدد بتحول الكتاب إلى سلعة للأغنياء فقط.. على صعيد متصل تشهد سوق الكتاب تأثيراً عنيفاً من السوشيال ميديا التي تعمل على توجيه الأجيال الجديدة نحو الغث والتافه من المطبوعات، التي تسمى كتباً بالخطأ وهي أقرب إلى خربشات المراهقين في دفاتر التعبير المدرسي، ويبدو ذلك التأثير والتيار الجارف من المطبوعات الغثة وكأنه مدعوم من كيانات بعينها بإعلانات مدفوعة وحملات ممولة على مواقع التواصل بهدف جمع الشبان والأجيال الجديدة وراء نماذج تعيد إنتاج أفكار عصور الانحطاط العربيَّة في ثوب جديد، وتبعد هذه الأجيال عن التواصل مع كل ما يوقظ العقل ويحفز التفكير النقدي بهدف إبقاء المجتمعات العربيَّة ضمن سيطرة الفكر الظلامي..

وللأسف لا نرى لهذه التحديات والضغوط نهاية قريبة ولا نرى انفراجة عاجلة لمشكلات القطاع الأكثر استنارة في النشر العربي... وإن كنا نأمل في جهد جماعي تعاوني من الناشرين المثقفين ومن الهيئات الداعمة للكتاب والثقافة بالمنطقة من أجل قلب الدفة وإعادة المعنى إلى عرشه داخل قلوب محبي الكتب.

الاستسلام للآخر

ويرسم يوسف كرماح، مدير دار نشر أكورا بالمغرب، صورةً أخرى قائلاً إنَّ قطاع النشر عانى مؤخراً من تراجع مهول، لاسيما بعد العقد الثاني من الألفيَّة، بسبب الجوائح والحروب وغضب الطبيعة. هذا التراجع لم يقتصر على قطاع النشر وحده، بل على العديد من القطاعات، ولكن سوق الكتاب تضررت كثيراً مع الارتفاع المهول بتكلفة الطباعة والشحن، التي أثرت في ثمن الكتاب وفي انتشاره، ومع الأزمة التي يعرفها العالم، بات من الصعب على القارئ العربي تحمل أعباء ترف القراءة. الحكومات العربيَّة لا تدعم الكتاب ولا نوادي القراءة، الجامعات والمؤسسات الرسميَّة لا تهتم أيضاً بدعم القطاع، ومع تكالب المنصات الرقميَّة لا يبدو أنَّ للكتاب الورقي مستقبلاً بتخصيصها أثماناً تفضيليَّة، وتوفيرها للعديد من الإصدارات بما فيها المطبوعة ورقياً، المعارض الدوليَّة أصبحت مناسبة استعراضيَّة وهي كذلك في الأصل، عدد زوارها من الكتّاب وملتقطي الصور التذكاريَّة يفوق القارئ الجاد. وإذا ما أشرنا إلى جودة المنتوج المعرفي فيمكننا القول إنه مؤخراً طفت إلى السطح نوعيَّة من الكتب الشعبويَّة وكتب التنمية الذاتيَّة التي تنفخ فيها مواقع التواصل والجرائد المؤثرة، لا يمكننا أن نقول بأنه تسطيح فكري، ولكن يمكننا القول إنه تأثير، نحن مستسلمون للغرب، لأنه مثال الحداثة والتقدم، وبالتالي نستهلك منتوجاته، حتى ولو كانت سيئة، تتهافت عليها دور النشر للحظوة بفضل السبق. وقد لاقت إقبالاً في المجتمعات العربيَّة بوصفها حلولاً لمشكلاتها ولأزماتها النفسيَّة في ظل الانحدار الاجتماعي. لا يمكننا عدّ الأمر حجر عثرة في طريق النشر العربي، ولكن يمكننا توصيفه بتأثير وخضوع استهلاكي.