عندما يكون النقد نافخاً لبالون الأديب

ثقافة 2023/03/15
...

موج يوسف 




هناك علاقةٌ حميميةٌ بين النّاقدِ والأديب، وتُشبّه هذه العَلاقة بالتوأمين، وهما اللّذان لم ينفكا عن بعضهما، لكن لم يجمعهما الحبّ يوماً؛ فذات الأديب تبغضُ الناقد ولا تراه إلّا ناقماً على نصّه الأدبي. متناسياً أن في ذاته يجلس ناقدٌ يمحصُ النص قبل خروجه إلى المتلقي، بمعنى  آخر: إنَّ الأديبَ نفسه ناقدٌ أيضاً، فهل هذه الميزة ظلت متقدة إلى يومنا؟

 إن العلاقة الشائكة بين هاتين الثنائيتين أنجبت إبداعاً كبيراً على مرّ القرون الهجرية الأولى، لا سيمّا في القرنين  الثالث والرابع الهجريين، فأُمهاتُ التراث من طبقات فحول الشعراء لابن سلّام الجمحي إلى الوساطة بين المتنبي وخصوصه للقاضي الجرجاني، فمن يعلم أن سبب تأليف الأخير هو للرد على النقاد من خصوم المتنبي الذين اتهموه بالإلحاد، والسرقات، والغموض الشعري، وكل هذه السجالات متناثرة في كتب عديدة، فأبو هلال العسكري في الصناعتين عاب على المتنبي قوله ( إني على شغفي بما خمرها لأعفّ عمّا في سراويلاتها) فقال: إنه من شنيع الكناية، وأما ابن سنان في سر الفصاحة، فقال عنه: لا شيء أقبح من ذكر السراويلات. وهذه أمثلة من بحر يفيض بالنقد في كتب  التراث، وتؤكد على جدلية النقد والأدب والتي كانت تفصح عن عافية الإبداع، والموضوعية النقدية في تعاملها مع النص الأدبي، فلا تزييف، ولا وصفات جاهزة يكتبها الناقد لكل الشعراء. وإن استمرار الجدلية لم ينقطع حتى في عصرنا الحديث، فكتّاب الروايات والقصص العالمية لم ينسلخوا عن سابقيهم في مشاعر البغض للنقد، فأنطوان شيخوف يقول عن النقاد: إن هؤلاء النقاد أشبه بذباب الخيول الذي يزعج الحصان أثناء انشغاله في جر المحراث. وهذه المقولة تبدو طبيعية لأن النقّاد في بداية حياته الأدبية سلقوه بأقلامهم التي لا ترحم. ولم يغب عنا أن الشاعر محمود درويش في بداياته كان يقول عنهم إنهم ليسوا نقّادا بل صحفيين، والشاعر أدونيس الذي قال للناقد عبد الله الغذامي في كتاب الأخير (النقد الثقافي): ليغفر الشعر له. إن هذه الأقوال الآنفة الذكر وغيرها الكثير، تثبتُ أن التوأمين ــــــ النقد والأدب ـــــــ متنافران، ولم يتجاذب قطباهما إلّا مؤخراً عندما ركد موج الأدب، وصار الأخير يعيش على المديح النقدي، وكأن معادلة المدح انتقلت من شاعر البلاط  إلى الناقد. وما يمكن مؤاخذته على الحالة الثقافية المعاصرة أنها تعيش على مغذّيين: أحدهما: الانخراط في صفوف المجموعة الأدبية، والثاني: الألفة والمصالحة مع النقد، فنتج عنهما أدب ونقد يعانيان عوقا فنيا، وتكرارا موضوعيا، فالأول الفني سواء أكان في الشعر أم السرد، نلحظ أن ـــــ أغلبه ـــــ  من ناحية الشكل يعاني الجمود إذا ما قلنا: إنَّ ضعف المهارة والثقافة هما المسيطران مع التبجيل المدحي الذي لم يعطِ فرصة للأديب لمراجعة ما كتبه. وبالمقابل نحلظ أن من يُقبل على تحديث الشكل يُقمع مشروعه؛ لأنه فردٌ بعيدٌ عن الجماعة. وهذه المغذيات المؤقتة المذكورة سابقاً، أثّرت في اللغة الأدبية بشكل سلبي، فلم تعد لغة الأدب وتحديداً الشعر حمّالة للدلالات المتعددة، ولم ترتفع إلى أن تكون لغة كونية في وضوحها، وكأنهم لم يدركوا أن الشعرَ حين يمرّ يغيّر كل نظرية اللغة ــ وفق رأي ميشوتيك ــ فقالبها الأفكار التي تطفو على السطح، فلم نرَ نصوصاً ذات تساؤلات تحرج اليقين، أو تهزُّ شجرَ الثوابت، وصارت المرجعيات الثقاقية تغيب عن النص، وهذه الأخيرة تكشف عن مشارب الأديب الثقافية التي تبين ضعفَ منسوبها. وما يمكن قوله: إنَّ المقياسَ الإبداعي عند الناقد المعاصر ليس النص وإنما أرقام الإصدرات التي تتزايد كل يوم، وكثافة حضوره في المنابر الثقافية والإعلامية، ولا تغيب عن بالنا مسألة تسنم الأديب المناصب الثقافية في السلطة فتزيد  عدد الأقلام النقدية التي تصبغ أدبه بديباجات مدحية، تخلو من الموضوعية. ومصير هذه الكتابات النقدية الزوال، فأين الذين كتبوا عن عبد الوهاب البياتي اليوم ــــ على سبيل المثال ــــــــ فالناقد الدقيق وفق تصوري يعزل نقده عن أدباء المناصب أثناء مدة تقلدهم المنصب، فلا يكتب سلبا أو إيجاباً؛ لأنه بكلا الحالتين سيكون نقده محل التزييف والشك. كما أن الكثرة العددية ليست مقياساً للإبداع فهناك أصحاب القصائد الواحدة والديوان الواحد بقوا في وجدان الأدب إلى يومنا، وكثرة المجلدات الشعرية، والإصدارت الروائية لا تبشر بالإبداع كما يظن النّقاد والقرّاء، لكنهم وقعوا في إغراء العدد؛ لضعف ملكتهم، ومهارتهم المعرفية وأحيانا عدم تمييزهم بين الأجناس الأدبية وما أعنيه على وجه الدقة، أن الرواية أمست فتاة الحفل المدللة، وسهلة التناول الكتابي ويُعتقد بأن كل سرد هو رواية إلى درجة لم يتم التفريق بينها وبين السيرة، وهذا ما حدث مؤخراً مع الناقد د. عبد الله إبراهيم في سيرته الذاتية (أمواج) عندما كُتبت عنها أطروحة دكتوراه في الجزائر بعنوان (البعد التاريخي في رواية أمواج لعبد الله إبراهيم) فحالة الجهل في عوالم الرواية لم تكن على مستوى النقد، بل حتى في الأبحاث الأكاديمية، فليس كل نص سردي فيه شخوص وحدث يمكن عدّه رواية، لأنها تعني تسجيل الانتقال من حالة البراءة إلى التجربة، فهي رحلة خلق إبداعي تعتمد على مكونات لسانية وتراكيب ومواقف، إنها لا تقلّ شأناً عن الشعر؛ لذلك هي صعبة على من لا يملك وعياً في عوالمها، فوقع كل من الناقد والأديب في شباك عدم المعرفة، وتحول النقد المعاصر إلى نقد استرزاقي ؛ لأنه يقوم على رضا الكاتب والشاعر، وبالمحصلة يشكل ضغطاً في الشهرة، وتزييفاً للحقيقة، ويؤدي إلى شيزوفرينيا ثقافية. فأقول إن عودة العلاقة الجدلية بين النقد والشعر هي خيط الفجر الأول الذي يبشر بعودة حركات التجديد والإبداع، أما هذه الألفة المجاملاتية فليست أكثر من نفخ في بالون الأدب الذي سينفجر يوما.