مستقبل الأدب

ثقافة 2023/03/15
...


 جيمس كوربي 


ترجمة: فارس عزيز المدرس



 ما الذي نستفْسِرُ عنه حين نَسألُ عن مستقبل الأدب؟ وماذا نعني بمستقبلِ الأدب؟. إننا نسأل عن: كيف سيختلف الأدبُ في قابلِ الزمان عمّا هو عليه الآن، ومتى نتوقّع حدوث ذلك الاختلاف ولماذا؟. 

ما الذي يقودُنا إلى الاعتقاد بأنَّ المستقبلَ حالةٌ فريدةٌ مِن نوعِها، أي أنّه البَوتقة التي قد يحدث من خلالِها تحوّلٌ جذريٌّ؟. لكننا قد نسلك سلوكاً معاكساً؛ ونسأل عن تاريخ الأدب بوصفِ الحاضر كان مُستقبلاً لأدبِ الماضي. ومع ذلك فالمستقبلُ لا يمكن معرفته بطريقةِ معرفتنا بالحاضر والماضي.


 لذا علينا أن نعترفَ بأنَّ المستقبلَ لا يمكن معرفته تماماً. وإذا كان المستقبلُ غير محدّد، فالتكهنُ بمستقبلِ الأدبِ سيكون بلا فائدة. لذلك لدينا توقعات وآمال ومخاوف بشأن المستقبل. 

لا نحاول توقّع حالةِ الأدب بعد ألف سنة، ولا حتى مئة سنة. كلّ هذه العقود الآجلة بعيدة جداً؛ بحيث تجعل أيَّ محاولةٍ لوضعها بشكلٍ واضح أمراً غيرَ علميٍّ ومثيرٍ للشفقة، وسيكون مِن منظورٍ واقعي مادةً للخيالِ وأحلام اليقظة. وعليه أقترح أنَّ مستقبلَ الأدبِ قد يبدأ بعد نحو خمس سنوات مِن الآن. ويبدو أنَّ خمسَ سنواتٍ تسمح بإمكانيَّة حدوث تغيّر كافٍ لتمييز مساحةٍ يمكن أن تحدثَ فيها تحولاتٌ واضحةٌ وغير مسبوقة.

 لقد استغرق الأمرُ ما يقرب مِن خمس سنوات حتى وصلت You Tube و Facebook وغيرها إلى الصدارة، وتغييرِ الطريقةِ التي يقضي بها ملياراتُ الأشخاص أوقاتهم على الإنترنت. وهذه هي البوتقة القريبة. أمّا البوتقةُ البعيدةُ فنحو خمسين عاماً، بعدها ندخل في حيّز الخيال وأحلام اليقظة. 

وعلى الرغم من أننا قد نكون قادرين على توقع كيف يمكن أن تكون الأشياء بعد عشرين عاماً من الآن (كمتوسط بين الخمس سنين والخمسين سنة)، فلنا أن نسلمَ بأنَّ التغييرَ سيكون بطريقة جذريَّة ولكن تبقى القضيَّة نسبيَّة. لكنه أمرٌ قابلٌ للمراقبة. لأنه الحيّزُ الذي مِن المحتملِ أن تكشفَ فيه أفكارُنا حول المستقبل عن هويتنا، وعن ماهيَّة أيديولوجياتنا وتحيزاتنا.

مِن المؤكّد أنَّ هناك افتتاناً بالفكرةِ القائلةِ بأنَّه في غضونِ عشرين عاماً ربما تسير الأمور على نحو سيئ، وقد يجد أعضاءُ جمعيَّة مستقبلياتِ الأدب Futures of Literature أنفسَهم يدفعون عربةَ تسوّقٍ مليئة بمواد هزيلةٍ على طريق ريفي قاتم وقاحل؛ هروباً مِن عصابات آكلي لحوم البشر المتجولة... لكنَّ النسخةَ المروعة مِن المستقبل هي آخرُ شيء يدور في أذهاننا. وببساطة لا يوجد مستقبلٌ للأدب؛ ما دمنا نتوقع حدوث كارثة عالميَّة في حياتنا، وهذا هو السببُ وراء لا جدوى ترقُّبِنا أو توقّعنا حالة الأدب في آماد بعيدة.

أودّ أن أقترح شيئين يعززان جدوى توقعنا: أولاً الإيمان بالتقدّم الذي قد يُنظرُ إليه على أنه أقرب إلى الإيمان الديني؛ إذ يبدو أنه يَعِد بالخلاصِ مِن واقع غيرِ مَرْضيٍّ عنه. وقد تكون الأمورُ سيئةً في الوقت الحالي وفي الماضي، لكنَّ الإيمانَ بقانونِ التقدّم يؤكد أنَّ الأمورَ ستتحسّن، لذلك يجب أن نثقَ بالمستقبل. 

إنَّ العناية التاريخيَّة theodicy، ليست مدهشة فحسبُ، بل هي متماسكة، وما يدفع إلى ذلك هو أيديولوجيَّة إنسانيَّة تشير إلى أنَّ البشرَ يمكن أن يصنعوا بأنفسهم عالماً أفضل مِن أيِّ عالمٍ عاشوا فيه. وما يمنح المصداقيَّة لهذا سرعةُ تطور العلم والتكنولوجيا. وبالتالي قد نعدُّ الإيمانَ بوعدِ العلم تصحيحاً لحالتِنا البشريَّة، وإزاحةً للمخاوف الموجودةِ في السياقات الدينيَّة. وقل ذلك مع الهوس الفلسفي في التغلب على الميتافيزيقيا. 

إنَّ الإيمانَ بالتقدّم ظاهرةٌ حديثةٌ في أوروبا. تنامت مع بروز الرأسماليَّة كنظام مهيمن. فالرأسماليَّة موجهةٌ نحو المستقبل بشكلٍ حتمي، ولكن أيُّ مُستقبل تحديداً!؟. ثم كيف لنا أن نشطبَ تواريخ أممٍ أخرى وآدابها، ونحيل كلَّ تغيّر في الأدب إلى الرأسماليَّة فحسب!؟. إننا نفعل ذلك لأننا نرى أنَّ العالمَ كله أضحى مُنساقاً لأطر الرأسماليَّة، أو متأثراً بظلالِها وتأثيراتها.

يذهب الفيلسوفُ وكاتب السيناريو الإيطالي فرانكو بيراردي Franco Berardi؛ في كتابه (بعد المستقبل After theFuture): “إنَّ أسطورة المستقبل متجذرةٌ في الرأسماليَّة الحديثة، لكنَّ الفكرةَ القائلة بأنّ المستقبل سيكون أفضل من الحاضر ليست طبيعيَّة، وأسطورة المستقبل فقدت قوتها؛ ونحن نعيش مرحلةَ ما بعد المستقبل؛ المتمثلة بالحياةِ الافتراضيَّة والموت الفعلي، والمعرفة الافتراضيَّة والحرب الفعليَّة. 

ماذا يعني هذا؟ يعني: حتى لو نشكُّ خلالَ ليلةٍ مظلمةٍ في الروح التقنيَّة الرأسماليَّة في أنَّ الأدب بعد عشرين عاماً سيكون بحكم حداثته أفضلَ من الحفاظ على الممارسات الأدبيَّة الحاليَّة؛ فعلينا أن نسلِّم بوصفنا علماءَ أدبٍ محترفين بقبول الحال والتكيف معه؛ تحاشياً لألمِ التخلُّف عن الركب، وإلا سيصبح الأدبُ بعيداً عن متناولِ اليد، أو عفا عليه الزمن.

 سأقدّم بضعَ ملاحظات حول دوافع للاهتمام بما يسمى مستقبل الأدب. أولاً: يشجع كلٌّ من الإيمان بالتقدم والمصلحة الذاتيَّة على الابتعاد عن الموقف العدمي في ما يتعلّق بالعالم، ويحض على الميل إلى التكيف مع الظروف. لذلك لا نتحدّث عن المستقبل إلا لوصفه، والتكيف معه، وليس انتقاده، أو منعه. 

ثانياً: مِن المثير للاهتمامِ والقلقِ أنَّ كلتا الفكرتين: التقدّم والمصلحة الذاتيَّة؛ تشيران إلى أيديولوجيَّة عولميَّة تمثّل وجهةَ نظرِ الرأسماليَّة فحسب. ومِن هنا فالسؤالُ حول مستقبلِ الأدب هو السؤال الذي يطرحه الإنسان الليبرالي الذي يعيش في اقتصاد رأسمالي، فمستقبلُ الأدبِ مقيدٌ بالإمكانات المفرطة للمستقبل، والميل البشري إلى رؤية العالم من خلال الإيمان الضمْني بالتقدم، وكلها سماتٌ مميزة لكل من الليبراليَّة والرأسماليَّة.

 أود الآن رسم البدائل الممكنة لعلم المستقبل الأدبي. نظراً لانتشار الاتجاه المستقبلي وقوته في الدراسات الأدبيَّة وفي العلوم الإنسانيَّة، وسنعذرُ المرء إذا اعتقد أنه لا توجد بدائل. 

لنأخذ تعليقات ميخائيل إبشتاين في كتابه تحولات البشريَّة The Transformative Humanities: A Manifesto. يقول: إنَّ “أولويتنا بناءُ الثقةِ في المستقبل”. والبديلُ الوحيدُ للتوجّه نحو المستقبلِ هو الرضا عن الذات، وهذا الرضا قهريٌّ وخبيثٌ ولا يعدُّ خياراً. لكن هل هذا صحيح؟، يبدو كذلك. لكنْ يجب على علماء الأدب أن يُدركوا أنَّ الرضا عن الذات أمرٌ نسبيٌّ، وليس مِن المستغرب أن يصبحَ الأمر كذلك مع ظهورِ المفهوم الحديث للتقدم.

لذا يجب أن نوليَ مزيداً من الاهتمام بطرقٍ أخرى للتفكير في الأدب، (على سبيل المثال الواقعيَّة التأمليَّة). إذ يمكن اعتبارُ مثل هذا النهجِ يتَّجه نحو الماضي؛ لكنَّ جناحيه ممدودتان، وتلتقطهما عاصفة تدفعه بشكل لا يقاوم إلى المستقبل، وما نسمّيه التقدم هو هذه العاصفة.

من هذا المنظور فإنَّ وجهة نظر إبشتاين خاطئة: إذ لا يمكن أن يكون هناك مستقبلٌ يستحق امتلاكه، ما لم يتم إبعاد انحدار المرء من المستقبل نحو الماضي. وبالنسبة لي يعني مستقبل الأدب أن يكون منفتِحاً على ما هو آت، والذي يمكن اعتباره قضيَّة تحدّد مصيرَه.

 

الأدبُ بطبيعته يمكن أن يحافظَ على قدرٍ من الانفتاح، لكنّ قسر التفكير المستقبلي على الرسماليَّة وفتن الحداثة يفعلان العكس تماماً. ويغلقان منافذَ الانفتاح. ومثل هكذا انفتاح خضوعٌ وتأطيرٌ مستمدٌ مِن روح تكنولوجيَّة بحتة. ومِن هنا فهِم هايدجرُ التكنولوجيا بأنها غيرُ قادرةٍ على السماحِ للكائنات أن تكون كلّ شيء، بما في ذلك الإنسان نفسه، الذي قد يصبح شيئاً يمكن التخلص منه. لذا سيرتهن مستقبل الأدب بخضوعه للتكنولوجيا. والمستقبل لم يَعُدْ هو الذي ينتج الأدبَ، فالأدب سيأتي مجبراً على التطور والتغيير مِن أجلِ خدمةِ فكرة تكنولوجيَّة عن المستقبل. وبعبارةٍ أخرى، يصبح الأدبُ أحدَ الأشياء التي يتم الاستيلاء عليها؛ للحفاظ على النظرةِ العالميَّة للرأسماليَّة التقنيَّة. 

والسؤال الآن كيف نقاوم هذا النوع مِن التأطير. هذا ما يجب التفكير فيه وفي الآثار المترتبة عليه وعلى اللامبالاة الجذريَّة. 

أمّا حديث هايدجر عن اللامبالاة المُفضية إلى السكينةِ؛ أو إلى التحرّر والانفصال، فهذا سيوفر طريقةً للإعلانِ عن (نعم ولا، في وقت واحد)، أي طريقة للتخلّي عن الإرادة طوعياً، أو اختيار الممانعةِ والمقاومة، لكن مِن العسير حينها التكهنُ بنوعيَّة الأدبِ وطبيعتِه؛ نظراً لخضوعه القسري لهيمنةِ التقنيَّة ومقتضيات الحداثة التي هي بلا شك توجهٌ رأسماليٌّ بامتياز.