إمام عبد الفتاح مؤرخاً للفلسفة النسويَّة

ثقافة 2023/03/15
...

د. نادية هناوي



لا خلاف في أنَّ نشاط البحث الفلسفي النسوي يتوقف على وجود منظمات وتشكيلات بحثية تولي النساء أهمية وتعمل على توكيد حقيقة أدوارهن وأهمية مواقعهن في الإجابة عن الأسئلة الفكريَّة الشائكة من قبيل : ماذا تريد النساء؟ وما هي المراتب الاجتماعية أو السياسية التي بها يكون للنساء حضور؟ وكيف هي أنشطتهن مقارنة بالرجال؟ وكيف يفاد من خبرات النساء واهتماماتهن الأنثوية؟ وما الدور أو الأدوار التي من خلالها تسهم المرأة في تمتين حضورها الفلسفي ابتكاراً واجتراحاً؟.. إلى آخر ذلك من الأسئلة التي يمكن للفلسفة النسويَّة أنْ تجيب عنها أو في الأقل أنْ تضع الخطوط العريضة التي بها تحل شائكية فهم معناها وما يراد من وراء طرحها والتفكير فيها.
ومهما بحثنا في تاريخ الفيلسوفات فلن نجد لهن غير أدوارٍ ثانويَّة، تحاول عبرها المرأة أنْ تستعيد الثقة بنفسها رافضة مقولة (إنَّ عقلها أقل من عقل الرجل)؛ بيد أنَّ الغالب في هذا التاريخ ان الفيلسوفة نفسها كثيراً ما تكون الضحية فيه. ويعدُّ د. إمام عبد الفتاح رائداً في وضع تاريخ للفيلسوفات ضمن سلسلة (الفيلسوف والمرأة) واقفاً عند عددٍ من اللائي ذكرهن التاريخ هنا أو هناك، وبغية عبد الفتاح توكيد حقيقة أنّ كل ما قيل تاريخياً حول المرأة من صفات دونية وانتقاصية، كان يراد منه الحط من قيمة المرأة من قبيل عدها رجلاً ناقصاً أو أنّ العاطفة تثيرها أكثر من الرجل.. وغيرها من التقولات التي جعلت تاريخ الفلسفة ذكورياً فهو تاريخ أفكار الرجال ومذاهبهم بلا إشارة إلى نساء فلاسفة باستثناء واحدة يذكرونها سريعاً على استحياء هي هيباشيا فيلسوفة الاسكندرية الشهيرة.

وما أراد د. إمام عبد الفتاح بلوغه هو أنَّ تاريخ النساء الفلاسفة كان قد بدأ في القرن السادس قبل الميلاد بالمدرسة الفيثاغورية التي أخرجت للعالم نساءً فلسفيات ذائعات منهنَّ ثيانو أول فيلسوفة فيثاغورية التحقت بمدرسة فيثاغورس وهي القائلة: “لأنْ تكوني فوق ظهر حصان جامح خيرٌ لك من أنْ تكوني امرأة لا تفكر”، مؤكدة بذلك أهمية أنْ تكون المرأة مفكرة. وهناك الفيلسوفة مييا التي كتبت عن التناغم والتآلف في حياة المرأة، بينما تعد جوليا “من أعظم نساء القرن الرابع الميلادي لما كان لها من ذهن ثاقب وفكر فلسفي عميق وبهذا احتلت مكانة رفيعة بين النساء الفلاسفة في العالم القديم” كما كان لها صالون أدبي وحلقة فلسفية. والفيلسوفة ايزارا اللوكانية التي كتبت عن الأسرة والهرمونيا والاعتدال، والفيلسوفة فينتس الاسبرطية ولها كتاب (الاعتدال عند النساء) فيه تقول: “ربما ظن كثير من الناس أنه ليس من المناسب للمرأة أن تتفلسف كما أنه ليس من المناسب لها أن تمتطي ظهور الخيل أو أن تتحدث في جمع من الناس أو تخطب في الجمهور علانية”. 

وتغلب النزعة المثالية والبعد الاخلاقي على كتابات هؤلاء الفيلسوفات، إذ ليس للمرأة سوى أن تحترم الالهة وأن تطيع قوانين الاسلاف وقواعدهم وأن الحكمة أهم من الجمال الذي هو ليس من الامور التي ترضي المرأة الأصيلة وتشبعها. وتعد ديوستيما من الفيلسوفات المتأثرات بأفلاطون وهي التي اهتمت بفلسفة الحب. أما الفيلسوفة ماكرينا فدافعت عن النظرية المسيحية في البعث والقيامة.

وأشهر الفيلسوفات قاطبة هي الفيلسوفة هيباتيا التي عنها قال ديدرو: “حقا لم تمنح الطبيعة إنساناً روحاً أسمى ولا عبقريَّة أعظم مما منحته هيباتيا بنت ثيون” وكان زمنها محتدماً بالصراعات بين المسيحية وفلسفة العلم. فتعمقت في دراسة مؤلفات ارسطو وافلاطون وفلسفة فيثاغورس وزينوفان. وكانت عالمة في الرياضيات وكتبت تعليقات وشروحات على كتاب بطليموس وكتاب القطوع المخروطية. ولقد جسدت حياتها صراع المسيحية والفلسفة اليونانية الوثنية. فكانت الضحية التي قتلت شر قتلة بسبب إصرارها على مبادئها الفكريَّة. وبسبب مصيرها المأساوي ولأنها آخر امرأة فيلسوفة، اهتمَّ بها الفلاسفة والمفكرون الغربيون أكثر من غيرها. وأرجع الدكتور محمد غنيمي هلال أسباب الاهتمام بهيباتيا إلى ما كانت تتمتع به من مواهب خارقة. ولا يخفى أنَّ العصور الحافلة بالاحتدامات الحياتيَّة والمتناقضات الفكريَّة هي أكثر من غيرها إنتاجاً للفلاسفة. وهيباتيا ضحيَّة الاحتدامات الحياتيَّة الدينيَّة التي شهدتها مدينة مهمة مثل الاسكندريَّة التي كانت آنذاك مأوى الارستقراطيَّة الفكريَّة إلى جانب وجود جامعة هي الأولى من نوعها الى جانب ما كان لسلطان العقيدة من سيطرة على نفوس الجماهير. الأمر الذي يجعل أية عقليَّة أنثويَّة تريد التحليق في أعلى أجواء الفلسفة غير حرة بل ضحية روح التعصب المستبد الاستبداد كله بالرأي الآخر المخالف.

ومع نشوء الحركات النسويَّة الحداثيَّة تزايد الاهتمام بهيباتيا كرمزٍ للاضطهاد الجنسي المأساوي لفكر المرأة. وظهرت أول مجلة تعنى بالفسلفة النسويَّة تحمل اسم هيباتيا تكريما للجدة الأولى.

ومن فيلسوفات العصر الحديث من القرن السابع عشر الى القرن العشرين مارجريت كافنديس الانجليزيَّة التي كتبت الفلسفة الطبيعيَّة وكرسيتنيا فازا ملكة السويد تلميذة ديكارت وفيتش كونواي التي أثرت في لبنتيز في فكرة الموناد monad وماري ارنوك وسوزان ستيبتج وسيمون دي بوفوار وحنة ارندت وسوزان لانجر وساندرا هاردنج ارميكيو التي أصدرت (سؤال العلم) في النسويَّة 1986 وكانت لوحدها مؤسسة.

ومنذ هيباتيا وللمرأة الفيلسوفة المتمكنة والفاضلة من يعاديها على طول التاريخ، وفي تاريخنا الإسلامي الحديث مفكرات وصاحبات مبادئ دينية ثبتن عليها لكن التاريخ لم يحفظ لنا من أدوارهنَّ الثقافية والفكريَّة سوى القليل. ومن ذلك ما نقله التاريخ عن المفكرة (قرة العين) التي نشأت في جوٍ فكريٍ مفعمٍ بالجدل واستطاعت أنْ تستوعب بذكائها كثيراً من الجدل وتنتفع به.

وبدأ نجمها يظهر مع اعتناقها الدعوة البابية حتى أحدثت في المجتمع الكربلائي بالعراق هزة عنيفة وقيل أنها كانت تلقي الدروس الدينيَّة في منزلها ويجتمع إليها عددٌ كبيرٌ من الطلبة والمستمعين فكانت تجلس في غرفة صغيرة وراء باب عليه ستار وتجتمع الطلبة والمستمعون في غرفة أخرى واسعة وهي تتحدث من وراء الستار وصار الرجال والنساء يتناقشون ويتجادلون في الأفكار الجديدة التي كانت تطرحها قرة العين في دروسها المنزلية. وبسبب نشاطها الفكري وميلها الشديد الى التجديد في العقيدة، واجهها المجتمع الذكوري مواجهة قاسية فانتقص عقليتها ودحض ما لديها من فكر واتهمها بعض خصومها بأنَّ سبب نشاطها التجديدي هو فشل زواجها من ابن عمها الى جانب تعليلات أخرى أشد قسوة انتهت بالحكم عليها بالقتل. فألقيت بأمر الشاه في بئر في حديقة القصر على بعض الروايات او أنها خنقت بمنديل من حرير كما يذكر الدكتور علي الوردي مؤكداً أنَّ صيتها طار بين الناس بعد ذلك الحادث.

وعلى طول التاريخ الحديث لم تتضح أية بوادر تشير إلى ممارسة المرأة الفلسفة باستثناء تجارب محددة؛ بيد أنَّ بوادر التواصل بين الميدانين النسوي والفلسفي تجلت في التاريخ المعاصر في الغرب وبشكلٍ خاصٍ في الولايات المتحدة الأمريكيَّة حين نظمتْ الفليسوفات النسويات جمعية (المرأة في الفلسفة SWIP )عام 1972 فكان لذلك أثر كبير في بروز البحث الفلسفي النسوي المعاصر كما تأسست (الرابطة الدوليَّة لفلاسفة النسويَّةLAPH ) عام 1974 لأجل دعم تبادل الفلسفات النسويَّة عالمياً ثم تشكلت جمعية(SWIP)  التي أطلقت المجلة الأكاديميَّة المعروفة (هيباتيا مجلة الفلسفة النسويَّة) التي ما زالت تصدر إلى اليوم وبفاعليَّة كبيرة.