الفيسبوك والفلسفة

ثقافة 2023/03/15
...

عبد الغفار العطوي 



لم تتأخر الفلسفة في  مد يد العون والمساعدة للعلم الآن ، مثلما هي لم تتقاعس أبداً في الوقوف مع الدين في الماضي ، لكن طبيعة الفلسفة  ووظيفتها المختلفة عن الحقلين المعرفيين   الآخرين ؛ الدين و العلم هي التي تحدد شكل و مغزى التعاون الذي تفرضه الفلسفة  عليهما ، في كتابه (لماذا العلم) يقدم جيمس تريفيل  (1) صورة  دقيقة بسيطة للعلم في حياتنا اليوم ، و في المستقبل  بإسم الثقافة العلمية  التي نعرف أنها ما كانت  ماثلة لولا الفلسفة  التي فتحت الباب  واسعاً لدخولها ، من حيث بدت مشربة بالوعي الفلسفي  الذي  قامت الفلسفة بوضعه عند مفترق طرق ، باعتبار العلم تعلماً، وفي العام 2000م و كان  عاماً ملحمياً بالنسبة  إلى العلوم  حيث لم يفرغ  العالم كله  من احتفاله  به، و إذا به يتم الإعلان  عن مشروع  علمي  مذهل  استمر  العمل به عدة سنوات  ، و عقد له مؤتمر صحافي  في البيت الأبيض (أمريكا)  و الغرض منه استهداف إكمال  ما سمي بالتركيبة أو بالتجميعة  الأولى للجينوم البشري، و قد أشرف عليه  كريغ فنتر الرجل المسؤول برعاية  المعاهد القومية للصحة، وملخص المشروع يتعلق  - بـ DNA ،الذي فتح للعالم  العلمي بوجود الحواسيب تلك الأدوات  العجيبة المذهلة  متعددة الجوانب آفاق  محو الأمية العلمية ، مما مهد لظهور نمط جديد  من العلم أطلق عليه ( الفيسبوك) ليضع قدماً ثقيلة في حياتنا بعد مشروع الجينوم البشري في فكرة التطبيق  العلمي لخصوصية الإنسان في عصرنا الواسع المغترب عنا، أي فكرة تصاهر الفلسفة مع العلم عبر الفيسبوك لإنتاج عالم يتخذ من الواقع الفردي عوالم افتراضــــــية، حتـــــــى بدت حياتنا بتعبير جان بول سارتر  ليس لها معنى أو معطى محدد، فمعنى حياتنا مسألة متروك  لنا تحديدها   و هو ما يعد شيئاً محرراً لنفوسنا (2) من جهة ، لكنه من جهة أخرى هو تقييد لذاتنا على اعتبار أن الواقع الذي فيه قد وُضِعَت  حياتنا منشؤه افتراضي ، و هو الشيء نفسه  الذي بنى عليه العلم تصوراته، في أن تصطبغ المعارف الإنسانية كلها بصبغة علمية ، منطلقها فلسفي في إشاعة نوع من الحرية قال عنها هيغل : إن الحرية ليست ببساطة  فعل ما أريد، فهذه  مجرد نزوة  و هوى لا معنى له، الحياة البشرية لا يمكن أن تعاش على شكل فردي في وحدة (3) يمكن أن نقارن تلك المقولة الهيغيلية  التي نجد تطبيقاتها في صميم حياة الشبكة العنكبوتية للفيسبوك في محاولة هيغل في جدلية العبد و السيد (4) مع تبادل الأدوار بين الفيسبوك  و مشتركيه  في أصعب شعور يجتاحنا نحن البشر الذي عززه كريغ فنتر سابقاً في كشفه عن بصمة الحامض النووي ليصبح البشر أجساداً  وهمية مفترضة تقاسي شعور الاغتراب لا يمثلها غير صيغة البصمة  التي  تحولت في الفيسبوك إلى مجرد بروفايل شخصي موزع داخل متاهة ، تلك الصورة التي تمثل  حرية الذات المفكرة، لذا ينظر هيغل إلى الإنسان بوصفه ذاتاً عاقلة  أو ذاتاً فردية سمتها الأبرز إنها ذات  مفكرة لها علاقة  جدلية مع الموضوع، والعلاقة بين الذات و الموضوع كالعلاقة بين العبد و السيد كلاهما  يتناوب الفائدة ، أو كما يراها هيغل في خلاصة هامة  و هي إن الإنسان  عنده، و بعيداً عن بعده  البايولوجي  هو ماهية عقلية  ضرورية ، مفكرة ، تعيش  بالجدل ، و الجـــدل،  وهي في تحول  مستمر و أبدي ، من هنا نجد  تعرض الفيسبوك  لقربه من الفلسفة    للنقد بسبب  هذه  الأنواع من الخبرات  التي يمر  الناس بها من خلاله (على شكل مجتمعات و جماعات) ليظل الفيسبوك عبارة عن  صورة منعكسة للناس في نظر سوزان سونتاج  التي  عبرت في كتابها ( حول التصوير الفوتغرافي) بأن  الملل ما هو إلا  مجرد الجانب الآخر للفتنة والسحر، أي إن الفيسبوك في معظمه هو الناس، الناس الذين  تعرفهم جيداً ، و الناس الذين لا تعرفهم، لذا ربما سيكون هناك سؤالان هما في ارتباط  دائم  من  يستخدم الفيسبوك؟ ولماذا؟  ربما لا تجيب الفلسفة بصورة  موفقة عليهما ، لكن الإجابة تأتي  من ذوي الخبرة من الفلاسفة و الباحثين في الفلسفة واقتصــاديات التكنلوجيا  المتعلقة  بوسائل التواصل الاجتماعي ، منذ أن أسس الفيسبوك  عام 2004 غيَّر موقع الشبكة الاجتماعية  حياتنا تغييراً عميقاً، أصبحنا غير قادرين على الاستغناء عنه، إن لم نكن لصيقين به ، و هذه  المداومة عليه أوجبت نوعــــــــــــــــــاً من مخاطر و منزلقات  الصداقة الوهمية  التي نبهت عليها الفلسفة ، هو فقدان العلاقة  الجدلية بين ذواتنا و الموضوع الذي يوهمنا الفيسبوك به، برغم أننا ندرك أننا نعيش في متاهـــــــة علاقة افتراضية قائمة بين البروفايل و الذات، لعلمنا أن  القلق هو أهم عارضة يدمرها الفيسبوك بدءاً بالخصوصية المفقـــــــــودة التي ينتزع محرماتها بـ(فيروس الخصوصية) و هي مسألة شائكة طالما حذرت منها الفلسفة  بقولها في الحقيقة إنه  كلما نظرت  عن كثب أكثر فأكثر ، تصبح  فكرة أن الفيسبوك مقبرة الخصوصية  غريبة فأغرب، مع أن الخصوصية غدت هدفاً مباحاً في إطار مجتمعية الفيسبوك الواحد ، لكن المشكلة المهمة تكمن في الثنائيات  كالعام والخاص، والمحرر والمؤلف،والصداقة واللا صداقة تلك التي سرعان ما تطيح بها فكـــــــــرة أن الفيسبوك هـــــــو عبــــــــارة عن التحدث إلى الحائط أو أشبه بذلك الأمر. 


إحالات 

1 - لماذا العلم  /جيمس تريفيل  ترجمة  شوقي جلال  عالم المعرفة  322 فبراير/شباط  2010 ص 229 

2 -الفيسبوك و الفلسفة  بم تفكر  /تحرير  دي اي وتركوور ترجمة و تقديم ربيع وهبه  ط1 2018 المركز القومي للترجمة ص 31 

3 - المصدر نفسه ص 37

4 - من النسق إلى الذات  د- عمر مهيبيل  الدار العربية للعلوم – ناشرون ط1 2007 ص 229