ريتشارد برايس.. هكذا يغدو أحد أبرز المفكّرين المنسيين من القرن الثامن عشر

ثقافة 2023/03/15
...

هوو ال. وليامز


ترجمة: حيّان الغربيّ


تفيد كلمات التأبين التي نظمت رثاءً للمفكّر ريتشارد برايس إبّان وفاته في العام 1791 بأن ذكره سيخلّد إلى جانب شخصياتٍ تاريخيةٍ بارزةٍ من قبيل بنجامين فرانكلين وجون لوك وجورج واشنطن وتوماس بين.

ولكن يبدو أن اسمه قد سقط من الذاكرة الشعبية والثقافية اليوم في أعقاب مرور ثلاثمئة عامٍ على مولده في قرية لانجينور على مقربة من مقاطعة بريدجند جنوبي ويلز، فما هي الأسباب التي أدّت إلى هذا الإغفال يا ترى؟ 


لا ريب في أن برايس كان مفكّراً موسوعيّ المعرفة، وقد طالت إسهاماته البارزة والمعمّرة العديد من الحقول العلمية، بما في ذلك الفلسفة الأخلاقية والرياضيات واللاهوت. علاوةً على ذلك، مارس إسهامه، بوصفه مثقّفاً عاماً، تأثيراً هائلاً لم يقتصر على السياسة الدولية دون أدنى شك. ولعلّ المرء لا يجانب الصواب إذا ما تطرّق بدايةً إلى التوازي ما بين حكايتي ريتشارد برايس من جهة وصديقته ماري وولستونكرافت من جهةٍ ثانية، فقد كانت الأخيرة فيلسوفة ومنافحةً عن حقوق المرأة فضلاً عن كونها والدة ماري شيلي (الكاتبة المبدعة لشخصية فرانكنشتاين- المترجم).

استلهمت وولستونكرافت أفكار برايس ناهيك من أنها مدينةٌ له بالارتباط المباشر ما بين معظم نصوصها المؤثرة وحرب المنشورات التي عُرِفَت باسم “الجدل بشأن الثورة” من جهة وأفكاره تلك من جهةٍ ثانية. ففي المنشورات المذكورة، انكبّ المفكّرون المؤثّرون على مناقشة المشكلات والقضايا السياسية المنبثقة عن الثورة الفرنسية، وقد تم الإقرار بها في وقتٍ لاحقٍ بوصفها النقاشات المؤسسة للأفكار السياسية الحديثة.

كان برايس هو من أطلق شرارة تلك النقاشات من خلال عظة ألقاها في العام 1789 بعنوان: “خطاب عن حب الوطن”، وقد أبدى فيها دعمه للأحداث التي وقعت في مستهلّ الثورة الفرنسية، وهو قد أعلن بأنها تشكّل استمراريةً لنشر قيم وأفكار التنوير التي أطلقتها ثورة العام 1688 المجيدة في إنكلترا، مما حرّض الفيلسوف الإيرلندي المؤيد للإنكليز وعضو البرلمان اليميني إدموند بيرك على الرد من خلال منشوره الشهير: “تأملات حول الثورة في فرنسا”، الذي يعتبر نصاً مؤسساً للفكر المحافظ الحديث، وقد دافع فيه عن أهمية المؤسسات التقليدية في الدولة والمجتمع بينما حذّر من تجاوزات الثورة. وردّاً منها على بيرك، نشرت وولستونكرافت كرّاستها: “دفاعاً عن حقوق الرجال” في العام 1790، فتوجّهت من خلالها إلى بيرك بالنقد ودافعت عن برايس الذي توفي بعد ذلك التاريخ بعامٍ واحد.

وفي العام 1792، كتبت وولستونكرافت منشورها عميق التأثير: “دفاعاً عن حقوق المرأة”، والذي عملت فيه صراحةً على إشاعة أفكارٍ معارضة في صفوف النساء فضلاً عن تقديمها لأفكارٍ نقديةٍ لاذعةٍ للمجتمع. 

بيد أن التاريخ أسقط لاحقاً ذكر كلا المفكّرين، ريتشارد برايس وماري وولستونكرافت، ويرجع كاتب سيرة برايس الذاتية، بول فريم، هذا الأمر بصورةٍ جزئية إلى الأحداث التي شهدتها فرنسا والتحوّل العنيف نحو الإرهاب إبان الثورة الفرنسية.

وهكذا، على حدّ تعبير فريم، اتضح أن بيرك “كان الرجل الذي أصاب في توقّعه للمنحى الذي اتخذته الثورة”، الأمر الذي “قوّض الإيمان التفاؤلي بالعقلانية والحقوق الطبيعية” مما عُرف به برايس وغيره.

علاوةً على ذلك، عانى برايس وولستونكرافت على صعيد السمعة الشخصية لكلٍّ منهما، فقد غدا برايس موضوعاً للصورة التي رسمها بيرك وانتشرت كرسمٍ كاريكاتوري في تلك الآونة. أما وولستونكرافت، فقد جرى الانتقاص منها على خلفية السيرة الذاتية الصريحة (إلى حد الفجاجة) التي نشرها زوجها إثر وفاتها، إذ لم تتوانَ الجهات الساعية إلى تقويض سمعتها عن اتباع طرقٍ خبيثة لنشر ما ورد في تلك السيرة، بيد أن الحركة النسوية قد تكفّلت في وقتٍ لاحق في أن ترد إليها سمعتها الطيبة ومكانتها ناهيك من استرداد أعمالها.

ولكن فريم يرى أن ثمة عوامل بنيوية ما زالت تمارس تأثيراً أعمق على هذا الصعيد، إذ يعدّ برايس تجسيداً حيّاً للإصلاح الذي كانت للمؤسسة البريطانية مصلحةٌ جوهريةٌ في كبح جماحه، إذ إنه مثّل مجتمعاً منشقاً ناصبت أطيافه المسيحية الخارجة عن التقاليد العداء للكنيسة الإنكليزية القائمة وابتعدت عنها. وقد رفع برايس عقيرته في انتقاد العرش كما وقف ضد العبودية والقومية الشوفينية المتطرفة فضلاً عن أنه نافح عن المساواة والمثل الديمقراطية والقومية المدنية. ولعلّ قانون اجتماعات الشغب الصادر في العام 1795 بغية خنق الحركة الإصلاحية يرمز إلى العداء الموجّه نحو القوى التقدمية التي جسّدها برايس. 

لا ريب أنه لو جرى الاحتفاء ببرايس وأقرانه (بدلاً من بيرك) بوصفهم تجسيداً لروح بريطانيا (الدولة التي كان قد مضى على تأسيسها أقل من قرنٍ في تلك الآونة) لعاد ذلك بنتائج فعلية على أرض الواقع في الوقت الحاضر. ففي يومنا هذا، ثمة من يرى أننا ما زلنا نعيش عواقب التصرّف على ذلك النحو.

بيد أن سياسات برايس، في نهاية المطاف، قد أحرزت النجاح المنشود إذ أفضت الاضطرابات الاجتماعية التي شهدتها إنكلترا في القرن التاسع عشر إلى عجز المحافظين عن الوقوف في وجه المد الإصلاحي.

مع ذلك، بمقدورنا أن نتصوّر أن توجّهات بيرك المحافظة ما زالت ترمز إلى حيث يكمن توازن السلطة وفقاً للمصطلحات الرائجة في الثقافة السياسية في المملكة المتحدة، فما زال حزب المحافظين يعتبر غالباً حزب السلطة الطبيعي فضلاً عن أن الإذعان للطبقة الحاكمة مازال مستمراً.

ونظراً إلى سقوط اسم ريتشارد برايس من الذاكرة الجمعية البريطانية، فلعل الاحتفاء بسيرته وأعماله الشهر الفائت في الجمعية الأميركية للفلسفة في فيلادلفيا قد شكّل خطوةً في الاتجاه الصحيح. ومع ذلك، ستشهد ويلز أيضاً برنامجاً من الفعاليات التي ستسلّط الضوء على إسهاماته وراهنيته، بما في ذلك الاحتفال بعيد ميلاده في مسقط رأسه، لانجينور، وإقامة مؤتمر أكاديمي يتناول سيرته وأعماله، فضلاً عن عرض مسرحية تتناول حياته.

ونظراً لأن الثقافة البريطانية قد أهملت طويلاً الاحتفاء بهذا المفكّر الذي لم يألُ جهداً في سبيل الارتقاء بها، إذاً قد حان الوقت ليأخذ بلده الأم، ويلز، هذه المهمة على عاتقه على أقلّ تقدير.