صراع الفلسفة والسلطة

ثقافة 2023/03/15
...

  حازم رعد

الصراع وهو أحد مفاهيم ثلاثة يشير إليها عنوان المقال وتشكل موضوعاته فضلا عن مفهومي «الفلسفة والسلطة» فالصراع الذي هو قديم قدم الإنسان في هذه المعمورة، بل أن الصراع يتجاوز حدود الإرادة الإنسانية وميولها ورغباتها، وهذا اللون من الفهم، فهو موجود في كينونة الوجود ويشكل الجزء الأهم في فضاء الوجود الإنساني وقد عبر عن نتائج ذلك الصراع الفيلسوف اليوناني هرقليطس بقوله [إنك لا تنزل إلى النهر الواحد مرتين، لأن مياهاً جديدة تجري من حولك دائماً] وهذا التغير نتيجة لتلك الثنائية الضدية التي تعبر عن مفهوم «الصراع» الكامن في الأشياء، حتى أنه قيل [إن الأشياء تعرف بأضدادها] التي تدخل في صراع معها لكي تظهر من خلالها أو بنفسها إلى حيز الحضور، فالصراع طبيعة الأشياء والشيء لا يخرج عن كونه هو أيِّ صفته الجوهريَّة ومعنى ذلك أن الصراع مستمر من دون انقطاع.

وما نحن بصدد الحديث عنه الآن صراع من نوع مختلف في شكله عن الصراع الذي يحكم قوانين الوجود، فهناك نوع مما يطلق عليه «نضال» أي الصراع بمفهومه السيو فلسفي، أي كفاح اجتماعي وفلسفي، فما نشهده للفلسفة تجاه السلطة ليس صراعاً يستهدف النفوذ والحظوة بمكتسبات، وإنما هو كفاح الفلسفة ضد أصناف الاستبداد والسيطرة على العقل والتفكير والغاء الآخر ومحاولات محو قيم الاعتراف والعدالة والمساواة. 

الذي يتابع تاريخ الفلسفة والتحولات التي طرأت فيه يستشف حقيقة لا غبار عليها بأن تاريخها هو تاريخ صراع وصِدام دائم مع كل أشكال القمع، وخنق التفكير، ومحاولة شل حركة العقل، وفي هذا الصدد يقول فتحي التريكي [تاريخ الفلسفة تاريخ صراع مستمر] كانت صورته الأولى بين اللوغوس والأسطورة المسيطرة على ذهنية المجتمع، وصراع سقراط ضد السفسطائيين القريبين من السلطة، وصراع أفلاطون ضد تعجرف الديمقراطية التي سمحت لنفسها بقتل سقراط، وصراع العقل «ديكارت وسبينوزا» ضد عجرفة الكهنوت في العصور الوسطى، وهو تاريخ صراع قيم المساواة، والعدالة، والتوازن الاجتماعي، في القرون المتأخر، وكان جوهر تلك المشاهد النضاليّة هو «الصراع من أجل الاعتراف» اعتراف بالعقلانيّة، واعتراف بالحقوق، واعتراف بالقيم الخلقيّة التي كانت السلطة تحتكرها لنفسها وتعدها حقوقاً وحظوةً استحوذت عليها وتنفذت من خلالها. 

وعلى الرغم من حاجة السلطة إلى الفلسفة على طول الخط في أخذها للمفاهيم التي تغطي الأطر المعرفيَّة التأسيسيَّة التي تقوم عليها، وعلى الرغم مما تمده الفلسفة من رؤية وتصورات عن شكل الإدارة وطريقة ممارسة السلطة للحكم وتدبير شؤون الناس وتدشن كيان الدولة وتنظم فعل السلطة إلا أنه في أغلب الأحوال تبدو العلاقة متوترة بين الاثنين.

تذهب السلطة دائماً باتجاه توحيد الأفكار واختزالها بحقيقة واحدة “وهوية جماعاتية متفردة” ولا ينفع الجماعة من اواصر تجمعها غير ربط هويتها بفكرة الحقيقة الصحيحة الواحدة، ومنها انبثقت فكرة “الفرقة الناجية ومثيلاتها من الأفكار الاختزالية”، بينما الفلسفة نزوعها عام لها امكانية الانفتاح على كل الأفكار وتقبل كل وجهات النظر مهما كانت مختلفة ومتضادة، ومعيار ذلك راجع إلى دوران الفلسفة حول العقل الذي هو أعدل الأشياء قسمة وتوزيعاً بين الناس. 

كما أن السلطة تؤكد على القبول بالوضع القائم “بصورة مشابهة لعقيدة القدرية التي تأسست بفعل السلطة ايضاً داخل ديار الديانتين المسيحية والاسلامية” ورفعت شعارات تدعو الناس للتسليم والخضوع لما هو كائن وذلك لأجل مد النفوذ واستحكام قبضة السلطة، بينما الوضع مختلف في الفلسفة، فهي لا تقاوم الوضع القائم وتتمرّد عليه وتدعو إلى فك الخناق عن الأفكار المختلفة، واعطاء مساحات تفكيريّة للعقل يأخذ فيها ما يتمكن منه من السعة والرحابة لتثوير الأفكار والتجديد فيها لتغطي الواقع بما يحتاج إليه في هذا المجال.

إنَّ خطاب السلطة وهو في جوهرة ايديولوجي لا يبحث عن الحقيقة لذاتها، ولا يعتبرها هدفاً في جدول مهامه، وإنما هو خطاب يستهدف توظيف كل ما احتوشته قدرته من فلسفة وعلم وخطاب ديني لتدعيم كيان الأيديولوجيا، ومن ثم تقوية السلطة التي تمثل جلَّ همه من هذا الحراك الصراعي المرير، وهذا اللون من الخطاب يقع خارج أفق الفلسفة، إذ الفلسفة ليست خطاباً يستهدف غايات سلطويَّة أو تعبويَّة من أجل تثبيت أركان عقيدة ما، أو تشييد أسس “فكرة دوغماطيقية” معينة، وإنما خطاب الفلسفة عام يتسم بالمروءة والانفتاح والقدرة على الاستيعاب وقبول المختلفة والمضاد، بل ويتماهى معه خالقاً له جواً جديداً للتجدد والتقدم. عكس خطاب السلطة المؤدلج الذي يعني فيما يعنيه لَيَ عنق الفكرة التي يفترض أنها منفتحة في كل الاتجاهات وربطها بالجماعة السياسيَّة يجعل منها فضاءً منغلقاً على الذات، بل يقيد التفكير ويقصره على مساحة مسورة بأسيجة السلطة المهيمنة التي تفترض الفكر والانتظام للجماعة الإنسانيَّة. 

والفلسفة بطبيعتها تقف بالضد من ذلك، فهي لا تتقبّل الترويض أو التقيد بحدود مجعولة.. فقوة الفلسفة تعمل خارج الإنساق وخارج الأطر؛ ولذا فإنَّ ممارستها تمتاز بالتمرّد على الهويات والحقائق المسلّمة من جهة، وبأن طبيعتها مقاومة لكل أشكال القمع والهيمنة، وفيها نزوع إلى التحرر من القيود المختلفة، ولذا يقال إن الفلسفة لا تنمو إلا في أجواء تسودها الحرية ما يمكن الإنسان من اطلاق سرب تفكيره للتحليق في كل الاتجاهات والمجالات بحثاً عن الحقيقة وتحصيل المعرفة، ومنها نقد القمع والاختزال والتحيز التي هي صنيعة السلطة

والايديولوجيات.