صالح الكويتي.. الأب الروحي للأغنية العراقيَّة
سمير خلف
صالح الكويتي (1908 – 1986) من يهود العراق المولود في الكويت كان أهم ملحن بتاريخ العراق، وهو الأب الروحي للاغنية العراقيَّة ويعتبر هو من أسس هيكلية الاغنية العراقية، وجعل لها هويتها وروحها التي مازالت ليومنا هذا على مرور كل الاجيال في تلك الفترة من بدايات القرن العشرين، فلم تكن هناك أغنية لها هويتها المستقلة، فقط كان الغناء مقتصرا على المقام العراقي والبستات التي ترافقه والأطوار مع الاغاني الريفية والابوذيات.
بالإضافة الى التواشيح الدينية، وقام صالح بملء فراغ كبير بمكونات المجتمع العراقي المتمثلة بالطبقة المتوسطة من
موظفين .
لابد للاشارة الى موضوع علاقة الموسيقى بالأديان الابراهيمية حيث كان اليهود والمسيح يعتبرون أن الموسيقى جزء مهم من الطقوس الدينية، وكذلك الصوفية في الاسلام تعتمد على الموسيقى في شعائرهم الدينية، لكن معظم الطوائف الاسلامية الاخرى حرمت الغناء والموسيقى، ولهذا السبب كان يهود العراق خاصة في فترة الاحتلال العثماني وما بعده في عهد الملكية الهاشمية احترفوا الموسيقى والغناء وبرزوا فيها وتفوقوا حتى عند تأسيس الاذاعة العراقية في سنة 1936، اذ كانت فرقة الاذاعة جميعها من اليهود وظهور الاخوين الكويتي صالح وأخيه داود، بعد أن تركا الكويت منشأ ولادتهما ورجعما الى موطنهما الأصلي العراق (البصرة) حيث كان صالح عازفا على آلة الكمان وأخوه داود عازفا على العود والغناء، وكان شغف الاخوين بالموسيقى منذ كانا اطفالا، حيث كانا يصنعان آلاتهم الموسيقية بأيديهما، الى أن اشترى لهم عمهما آلة العود والقانون ونتيجة ذلك الشغف الموسيقي لديهما فقد لاحظ هذا الحب للموسيقى والدهما، فقد الحقهما مع الملحن الكويتي خالد البكر ليتعلما الموسيقى على يديه، فتعلما منه على الاسلوب اللحني لموسيقى وغناء الحجاز واليمن والبحرين، اما الغناء العراقي والمصري فقد تعلماه عن طريق سماعهما للاسطوانات.
في سنة 1927 وصلا الى البصرة برفقة المطرب عبد اللطيف الكويتي، وبعدها بسنة سافرا الى بغداد وفي سنة 1929 بدأت الرحلة الفنية الحقيقية لهما فقد التقيا كبار المطربين والمطربات في ذلك الوقت فعملا ببطانة المطرب العراقي الكبير محمد القبانجي ومن ثم مع المطربة الكبيرة سليمة مراد (التي تزوجت من ناظم الغزالي لاحقاً)، وفي سنة 1930 لحن صالح إلى سليمة مراد اغنية (كًلبك صخر جلمود ما حن عليا) التي ذاع صيتها واشتهرت شهرة واسعة، وهنا لا بد ان نستذكر حادثة مهمة وهي قدوم المطربة المصرية الكبيرة السيدة أم كلثوم الى بغداد وذلك في سنة 1932 حيث قابلت المطربة سليمة مراد أم كلثوم، وأرادت ام كلثوم ان تغني أغنية عراقية مشهورة فكان الاختيار على الاغنية أعلاه وقد غنتها ام كلثوم بصوتها وأعادت غناءها بكل حفلاتها في بغداد، وطبعا قامت سلمية مراد مع ملحنها صالح الكويتي بتحفيظ ام كلثوم
الاغنية.
ومن الجدير بالذكر أن هذه الاغنية هي على مقام نادر جدا، وهو مقام البستنكار الذي لم يكن معروفا في مصر وايضا على ايقاع الجورجينا، ولم يكن معروفا بمصر وباقي الدول العربية وهناك تسجيل نادر جدا بصوت صالح الكويتي، وهو يستذكر فترة اقامة ام كلثوم ببغداد واحيائها للحفلات وغنائها لتلك الاغنية وايضا يذكر صالح الكويتي وعلى لسانه في ذات اللقاء عن وصول الموسيقار الكبير محمد عبد الوهاب، وعن اللقاءات المتكررة بين عبد الوهاب وبين صالح الكويتي بعد أن يكمل كل منهما حفلته ويسهران إلى الفجر، ولا بد من هذه اللقاءات المتكررة والحديث عن الموسيقى والغناء، التي استمرت لشهر كامل طيلة فترة اقامة عبد الوهاب ببغداد، فقد استفاد عبد الوهاب الذي كان يبحث عن الجمال في كل مكان واكيد تأثر بالغناء العراقي وبالمقامات الخاصة به هذا التأثر، قد تبين ثماره في أعمال عبد الوهاب اللاحقة، حيث لحن وغنى عبد الوهاب عددا من أغانيه على مقام اللامي ونذكر منها في سنة 1942 اغنيته "يلي زرعتوا البرتقال" التي شاركته الغناء المطربة رئيسة فهمي ولم يكتف عبد الوهاب، بل غنى اغنيته الشهيرة "انا والعذاب وهواك" على نفس مقام اللامي وايضا اغنية "قلبي بيقولي كلام" على مقام اللامي . هذا مايخص مقام اللامي ومن المؤكد في اغنيته الرائعة "إجري يانيل" لحنها، وهو مستحضر في باله مقام البستنكار التي كانت من نفس مقام لحن صالح الكويتي، التي غنتها ام كلثوم ويقول ايضا صالح الكويتي بأن ام كلثوم تعزف على العود ولكنها اطلاقا لم تغني بمرافقة العود، إلا مع أغنية "كًلبك صخر جلمود"، فقد كانت تعزف وتغنيها وعن مقام اللامي يقول صالح الكويتي ان مقام اللامي غناه محمد القبانجي في ابوذياته ولكن صالح جعله مقام مستقل عندما لحن مايقارب عشرين الى ثلاثين أغنية وكانت أول اغنية لحنها على مقام اللامي هي اغنية على الدرب يا هواياي ومن الحان صالح الكويتي للمطربة العراقية الكبيرة سليمة مراد (الهجر مو عادة غريبة - نوبة محمرة نوبة مغشاية – ذوب وتفطر – خدري الجاي – على شواطي دجلة مر – هذا مو انصاف منك– يا الماشي الله وياك – يا نبعة الريحان ) .
في الثلاثينات من القرن العشرين جاءت الى بغداد المطربة الكبيرة زكية جورج قادمة من مدينة حلب السورية، والتقت مع صالح الكويتي وقدما ثنائيا رائعا من الاغاني الجميلة والتي كانت ألحانا، توسمت بالتعبير العالي سنذكرها لاحقا كانت زكية جورج من الديانة المسلمة واسمها فاطمة وكان صعب عليها ان ترقص وتغني في الملاهي الليلية آنذاك، حرصا على عدم كشف هويتها ولهذا السبب غيرت اسمها الى زكية جورج لتوحي بانها مسيحية نشأت قصة حب بين زكية وصالح الكويتي، ولكن سرعان ما انتهت هذه العلاقة بعد أن سافرت زكية الى البصرة في شهر رمضان لتعمل هناك في ملاهيها، حيث كانت اماكن الغناء في البصرة تفتح في شهر رمضان آنذاك، على العكس من بغداد التي اغلقت جميع الملاهي احتراما لشهر رمضان، وهناك تعرفت على طبيب اسنان من البصرة وانتهى بزواجهما تاركة اللوعة والحسرة تملأ قلب صالح الكويتي. من أهم الألحان التي صاغها صالح الكويتي لزكية جورج هي: (وين رايح وين على مقام العجم – كاضي الليالي بالسهر على مقام الرست – هذا نصيبك على مقام البستنكار – تاليها ياولف وياك على مقام الرست وعلى ايقاع الفوكس تروت وهنا تبدو تأثيرات صالح الكويتي من عبد الوهاب – طير لاتوكر طير على مقام البيات وعلى ايقاع الرومبا، وهنا ايضا تأثيرات عبد الوهاب واضحة على هذا اللحن – آنة من اكولن اه على مقام اللامي والتي غناها فيما بعد المطرب اليهودي العراقي فلفل كورجي – من غير أمل على مقام اللامي وقصيدة يا بلبل غني لجيرانك على مقام البيات وهناك اغنية رائعة وعلى مقام النهاوند وهي رثاء لمقتل الملك فيصل الأول وفيه تلقي الشعر زكية بصوتها يرافقها عزف صالح الكويتي على الكمان وفيه تأثر كبير باغنية عبد الوهاب ايها الراقدون تحت التراب.
هاجر صالح الكويتي مع اخيه داود الكويتي الى اسرائيل بعد ان أصدرت الحكومة العراقية قرارا باسقاط الجنسية العراقية على اليهود، وغادر الأخوان العراق رغما عنهما 1951 متوجهين الى اسرائيل التي استقبلتهما ورحبت بقدومهما واشتغلا بالاذاعة الاسرائيلية، حيث كانت تذاع برنامج عن الغناء العراقي كل اسبوع، وهما كانا من يقدمان هذا البرنامج وبقيا في اسرائيل، حيث توفى داود سنة 1976 واما صالح توفى فيها سنة 1986 تاركين إرثا موسيقيا كبيرا في تاريخ الغناءالعراقي.