الشعرُ خطفٌ للّغة

ثقافة 2023/03/18
...

 محمد صابر عبيد


الشعر الحقيقيّ هو الذي يخطف اللغة خطفاً حين يأخذها من حاضنتها الطبيعيَّة وينقلها بطريقته الخلاقة الخاصّة إلى حاضنته الفنيّة الجماليّة، ويحوّلها إلى عجينة لسانيّة متحرّكة يصوغ منها ما يناسب تجربته في قوة تخييلها وجموع عاطفتها وانفتاح أفقها على الطريف والجديد والمغاير والمختلف، لا يأتي الشعر إلى اللغة من طريق الألفة والمنطق والحجّة والفهم والقياس والمراجعة والظهور والمصالحة، بل يتجاوز ذلك كله كي يهدد حصون اللغة ويقلب توقعاتها الدائمة رأساً على عقب، متحدّياً منطق اللغة ونواميسها وهيمنتها الدلاليّة القارّة على الأشياء؛ كي يسحبها من أنفها ويطوح بها في الهواء تحت رعايته وحراسته، لذا وصف كثير من المشتغلين العارفين بجوهر الشعر أنه "لغة داخل اللغة"؛ بالمعنى الذي يجعل منه تدبيراً آخر للتعامل مع اللغة بحيث ينتقل بها إلى مساحة لغوية مغايرة.


إنّ اللغة بطبيعتها المعجميّة المتجوهرة على ذاتها تبقى هادئة نائمة في حضن المعجم، وتنتظر دائماً من يقوم باستعمالها وتحريك أطرافها على نحو من الأنحاء، إذ يحصل الاستخدام الأعظم لدى البشر الذين يستعملون هذه اللغة فيما بينهم في تعاملاتهم اليوميّة الاعتياديّة الضروريّة، فلا بدّ لهؤلاء من اللغة للتفاهم وقت الحاجة إذ يستعملونها في الحدّ الأدنى البسيط من طريقة الاستخدام، ولا يرومون من وراء ذلك أكثر من نقل الرسائل فيما بينهم على النحو الذي يحقّق القدر الأكبر من التفاهم وإنجاز القصد بأسهل وأغنى ما يمكن، وهذا لا يأخذ من اللغة كثيراً حين تبقى محتفظة بهدوئها وسكونها وشكلها القائم على المستوى البسيط من التخادم بين المتكلّمين وبأعلى درجات التفاهم المشترك.

يأخذ الشعرُ اللغةَ في عملية الخطف هذه إلى فضاء آخر بعيد عن الفضاء المعجميّ المحكوم بالعلاقة المباشرة الحرفيّة بين الدال والمدلول، كي ينتفح على مساحة جديدة مُباغِتة يبتعد فيها الدال عن المدلول فيما يُصطلح عليه نقديّاً "الانزياح"، حين تنزاح اللغة بِيدِ الشعرِ الخاطف عن مسطرة المعجم وتنفتح على آفاق مجازيّة عابرة للمعاني الأولى، لتبدأ العمل على مساحات جديدة من المعاني الثواني والثوالث وما تبعها بحسب حساسيّة الأداء الشعريّ الخاطف عند الشاعر، إلى الدرجة التي تدخل فيها اللغة مسار الغموض الشعريّ كي تنفصل اللغة الشعريّة هنا تماماً عن فعّاليتها الطبيعيّة، وتدخل في طراز مغاير من الفعاليّات يجد فيها المتلقّي أنّ اللغة الشعريّة هنا هي غير اللغة الطبيعيّة ولا بدّ من أدوات أخرى للتعامل معها.

يمكن معاينة عمليّة الخطف التي يقوم بها الشاعر للغة على أنّها عمليّة شديدة القصديّة وشديدة العنف أحياناً، كي يكون من المناسب للقصيدة التي تتكوّن في أحضان اللغة واستجابةً لمعطياتها القارّة ذات الطبيعة التقاليديّة أن تنمو نموّاً صحيحاً، ينطلق من عتبة الأسس اللغويّة المتينة والصحيحة للعبور منها إلى ما تكرّسه عملية الخطف من أوضاع لسانيّة جديدة، بوسعها أن تستجيب لتجربة القصيدة على النحو الذي يحوّل اللغة إلى كلام شعريّ مختلف بالمعايير والمقاييس كلّها، وبما يحتاج إلى وعي تلقٍّ مغاير يدرك أنّ هذا الكلام الشعريّ هو غير تلك اللغة التي يدرك حدود عملها داخل السياقات 

الطبيعيّة. 

لا يأتي فعل الخطف الشعريّ للغة بناءً على رغبة مجرّدة لشاعرٍ يحاول أن يكتب قصيدته في موعد لا يلائم الظروف المواتية لعمليّة الخطف، فلهذا الخطف أوانه الخاصّ المرتهن بشبكة من الأسباب والقوانين والأعراف المتعلّقة بالتجربة والخبرة والمعرفة، فضلاً على نضج العاطفة الشعريّة ووصولها إلى مرحلة التجلّي النوعيّ وتخصيب الخيال إلى الدرجة التي يتمكّن من احتواء كلّ هذا الفضاء، بما يجعل من عمليّة الخطف تجربة مكتملة وكثيفة محمّلة بقوى وقدرات استثنائيّة لا سبيل إلى تجاوزها أو تجنّب الاستجابة لها، حتّى تحدث بطريقة شعريّة لا تتكرّر فكلّ قصيدة تنطوي على عمليّة خطف لغويّ مختلفة عن غيرها.

تتكشّف اللغة عن جغرافيا لغويّة تشبه جغرافيا الأرض من حيث التعدّد والتنوّع والتقلّب بين الفصول والحالات والظواهر، ويسهم الشعر في تعزيز فضاء التعدّد والتنوّع حين يتدخّل في تفاصيل هذه الجغرافيا ويخطف منها ما يساعده على إنجاز مهمّته، حين تنفتح جغرافيا اللغة أمام لحظة الخطف الشعريّ بطبقاتها جميعاً كي ينتقي منها طائر الشعر ما يشاء، ومن ثمّ يصوغ قصيدته ممّا يتحصّل عليه من كنوز كامنة في أرض اللغة لا يراها غيره، ولا يتسنّى أمر الوصول إليها لغيره أيضاً، على نحو يجعل العمليّة برمّتها خاضعة لجوهر اللحظة الشعريّة الخاطفة التي يحصل فيها كلّ شيء برؤيا أصيلة تقول ما لديها بلغة أخرى.

تتميّز اللغة العربيّة -على نحو خاصّ- بما يسمّى "النسق الحرّ" الذي يستثمره الشعر في لحظة خطفه للّغة استثماراً هائلاً، يعزّز فيه رؤيته الإلماحيّة الخاطفة في العمل على استغلال إمكانات اللغة لنقل الوظيفة الشعريّة إلى أعلى مراحل التشكيل المجازيّ، وتكييف معطيات النسق الحرّ واستثمار طاقاته الخلّاقة للانطلاق نحو فكرة تفجير اللغة؛ لأجل الحصول على لغة جديدة طالعة من رحم اللغة الأصليّة هي "اللغة الشعريّة"، بما تتّسم به من خصوصيّة على مستوى التركيب والتعبير والتشكيل والتصوير والتدليل والترميز، حتّى تصل لحظة الخطف الشعريّ للّغة إلى بناء قصيدة متكاملة تحكي تجربة الشاعر في الحياة واللغة والشعر معاً.