الفلسفة بحاجة للأسطورة

ثقافة 2023/03/19
...

  ترجمة: رامية منصور

أعلن فريدريك نيتشه عن نفسه للعالم من خلال عمله «ولادة المأساة» في عام 1872 حينما كان في سن الثامنة والعشرين، وهو سرد رثائي لانعزال الثقافة الغربية عن أسسها الروحية. كان الإغريق القدماء، وفقا لنيتشه، قد أتقنوا ذات مرة توازنا ثقافيا صحيا بين الدافع الأبولوني «Apollonian» نحو السيطرة العقلانية وبين الرغبة والدافع الديونيسي «Dionysian» في الاستسلام للنشوة. منذ القرن الخامس قبل الميلاد فصاعدا، انحرفت الثقافة الفكرية الغربية باستمرار نحو العقلانية الأبولونية على حساب الانتشاء الديونيسية، وهو اختلال لم تتعاف منه أبدا.

كان مصدر الشرور في هذه القصة هو أفلاطون، الذي اتهمه نيتشه بوضع الفلسفة على مسارها العقلاني.

لم يكن تخليد أفلاطون لمعلمه سقراط أقل من هوس مرضي بالاستشهاد الفكري.

أنتجت نظريته عن الأشكال أو العناصر الوجودية أجيالاً من الفلاسفة الباحثين عن الحقيقة المتجرّدة من الميتافيزيقيا، مع التقليل من أهمية التجارب الحية في العالم المادي.

لقد ولدت ثورة أفلاطون الفكرية، على وجه الخصوص، من تدمير الأسطورة.. في أعقاب ذلك، تُرِكَت الفلسفة «مجردة من الأسطورة» ومحرومة من الجذور الثقافية. 

استمرت الثقافة الحديثة، بالنسبة لنيتشه، في التراجع في ظل إرث أفلاطون، وما زالت تصارع «فُقدان الأسطورة، وفقدان المنزل الأسطوري، ورحم الأم الأسطوري».

بعد سبعة عقود، في نهاية الحرب العالمية الثانية، شن كارل بوبر، بعد نيتشه، ما سيصبح ثاني أشهر هجوم على أفلاطون في الفلسفة الحديثة.  في» المجتمع المفتوح وأعداؤه” 1945، واتهم بوبر أفلاطون بأنه قد زوّد الفكر الغربي بالمشروع الأول لقيام “المجتمع المنغلق”.. يصور أفلاطون،  في»  الجمهورية»، مدينة مثالية تعطي الأولوية للتناغم الجماعي على حساب حرية الأفراد، والحفاظ على الوضع الراهن على حساب الابتكار، وسلطة الحراس الفكريين على حساب الديمقراطية والحقيقة. 

ناقش بوبر التأثير السام لرؤية أفلاطون السياسية الذي يمكن تتبعه من خلال تاريخ الفلسفة، وصولاً إلى ألمانيا النازية والأشكال الأخرى من الأنظمة الشمولية المعاصرة.

ألقى بوبر، على منوال نيتشه، باللوم على أفلاطون في وضع الفلسفة الغربية في المسار الخطأ. 

لكن لأنه يرى أنه قد فعل ذلك للسبب المعاكس تمامًا لأن أفلاطون ببساطة لم يكن، وفق بوبر، عقلانيًا.

واختصر بوبر الفرق بين المجتمعات المفتوحة والمغلقة على الفرق بين ثقافة النقد وثقافة الأسطورة. لقد دعا أفلاطون، بصفته أول وأعظم أعداء المجتمع المنفتح، إلى قمع النقد الحر لمنع إقامة «دولة موقوفة»، تدعمها الأساطير والخداع. أرجع بوبر الفضل لأفلاطون في كتابة نظير دقيق لـ “أسطورة الدم والتراب الحديثة» استنادًا إلى الرواية التأسيسية المثيرة للجدل للجمهورية وهي أسطورة المعادن.

من كان على حق؟ 

هل كان أفلاطون عقلانيًا قصير النظر، قاد الفلسفة إلى الانحراف بفك ارتباطها بماضٍ أسطوري أكثر أصالة؟ أم أنه كان صانع أساطير مخادع أدخل تيارًا مضطربًا من اللاعقلانية إلى قلعة العقل؟ كيف يمكن أن يكون كلاهما؟ بعبارة أخرى: هل يقع اللوم على أفلاطون في توجيه الفلسفة بعيدًا عن الأسطورة، أو تقريبها من الأسطورة؟ 

لا يتم الاحتفال اليوم بـ «ميلاد المأساة» ولا  «المجتمع المفتوح» لإخلاص كاتبيها للدقة التاريخية. 

ورغم ذلك، لا يزال نيتشه وبوبر مبدعين لأن كلاهما بحثا في العلاقة الوثيقة بين الأسطورة والفلسفة، والدور الرمزي الغريب لأفلاطون في فهمنا الموروث لتلك العلاقة.

كان كلا الانتقادين صحيحًا إلى حدٍ كبير، وبطريقة ممزقة لفكر أفلاطون، وإن جعلهما البعض في منطقة يكون فيها الجميع على حق كما في مثال الفيل والعميان التي تحكي عن كيفية تفكير العميان في محاولة منهم لرؤية الواقع الغائب عنهم! إذ يتلمس كل واحد منهم جزءا من جسد الفيل ويصفه على ان هذا الجزء هو شكل كل الفيل حتى أن واحدًا منهم لمس أحد رفاقه!  لا يزال يُحتفل بأفلاطون كشخصية وضعت الفلسفة على أساس عقلاني من خلال عزلها بأسلوب تفكير نقدي صارم وواضح عن براثن الأسطورة وحكمها المتوارثة. ورغم ذلك، فإن حوارات أفلاطون تتخللها أيضًا أساطير اخترعها مثل أسطورة المعادن، وتدوين الندوة عن أصل الحب، والقصص حول الحياة الآخرة التي تنتهي بحوارات فايدو وجورجياس والجمهورية . من الصعب التوفيق بين هذين الجانبين من فكر أفلاطون لأننا نظل متشبثين بفكرتين مختلفتين، لكنهما مرتبطتان ببعضهما في تراثنا الفكري، الأولى هي حقيقة أن الفلسفة تتعارض بشكل أساسي مع الأسطورة، والثانية هي كون أفلاطون مكتشف تلك الحقيقة التي يتناقض معها.