بين السرد التاريخي والسرد غير الواقعي

ثقافة 2023/03/19
...

 د. نادية هناوي 

  عرفت الرواية التاريخية منذ عصر النهضة، وفيها ظل التاريخ مقدسا كغاية وسيلتها السرد في تجسيد واقعة ما من وقائعه، ومن ثم لا يسيح كاتب هذه الرواية في التخييل إلا في حدود ما سجّله التاريخ العام الرسمي من أحداث ووقائع. وهو ما تخالفه رواية التاريخ التي فيها يعطي الكاتب لنفسه الحرية في تخيل الوقائع. وقد سمى هايدن وايت هذه الحرية بـ (التخييل التاريخي Historical Imagination) وفيه لا يتقيد الروائي بما ذكرته كتب التاريخ، لأن جزءا كبيرا من هذا التاريخ في نظره غير حقيقي. 

ومن طرائق كشف حقيقته السرد غير الواقعي الذي يأتي منغمساً في السرد التاريخي.

 وما يؤكد هذا الانغماس أمور ثلاثة: أولاً أن التاريخ سرد، وثانياً أن الخيال عنصر في السرد، وثالثاً السببية التي هي قانون أية سردية وبها يتحول الإيهامي غير الواقعي إلى حقيقي وواقعي.

وبهذه الأمور الثلاثة تكون اللاواقعية طريقاً إلى صناعة تاريخ جديد لواقعة أو حدث تاريخي كان قد دوّنه المؤرخون.

ومن هنا أعجب بوشكين بروايات وولتر سكوت لأنها أتت بجديد، أثَّر في المؤرخين المعاصرين، وعن ذلك قال: (إن تأثير وولتر سكوت يمكن أن يحس في كل جانب من أدب عصره. 

وقد كونت مدرسة المؤرخين الفرنسيين الجديدة نفسها تحت تأثير الروائي الاسكتلندي وقد أراهم مصادر جديدة كليا كانت قد بقيت حتى ذلك الوقت مجهولة رغم وجود دراما شكسبير وغوته التاريخية). 

ولا مراء في أن التحبيك يلعب دوراً رئيساً في أية رواية بما فيها الرواية التاريخية الكلاسيكية منها والحداثية.

إذ لا سردية من دون تحبيك وإلا فإنها تفقد قيمتها ولا يعود ممكنا تصديقها. 

بيد أن تحبيك الأحداث في رواية التاريخ يعتمد على منطقية الأقوال؛ فالاقتناع بالسرد وقبوله هو عموما يكمن في منطقيته وليس في صدقه أو كذبه، فالمقاييس العقلية تقوم على التسبيب الذي به ترتبط البدايات بالخواتيم وتكون اللحظة السردية معاشة كحقيقة تاريخية.

وهو ما نجده في أقدم السرديات بما فيها الخرافية والاسطورية.

وإذا كان من المفارقة أن يكون التنظير النقدي لرواية التاريخ ممثلا عليه بسرديات كلاسيكية من روايات القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، فإن ذلك مجرد مصادفة ثقافية. والسبب هذه السعة في فهم اللاواقعية التي معها يغدو الفارق واضحا بين سرد غير واقعي وسرد عجائبي غايته ترميزية وبأغراض آيديولوجية.

وإذا افترضنا أن (التخييل) في السرد العجائبي يصل إلى أقصى درجات الجنون، فانه يظل قابلا للقياس بأنموذج معين على مستوى التمثيل بما هو سحري وغرائبي وفنتازي بينما السرد غير الواقعي تلفظية قولية بلا أنموذج يمكن به قياسها كما لا مستوى أو معيار يحدد درجتها. فتصبح الفواعل حية وهي في الأصل ليست حية أو تظهر ناطقة مع ان لا عقل لها. وليست الاستحالة سوى وسيلة، وما يجعل هذه الوسيلة فاعلة في تحقيق غاياتها هي العواطف التي تضفي على السرد واقعية كالغضب والعار والخوف والازدراء والافتتان والغيرة، وبها تتأكد منطقية الترتيب للأقوال فتتحول الاستحالة إلى احتمال واللامحاكاة إلى محاكاة. أما الغاية فليست رمزية تشفيرية، بل هي عقلية واقعية تجعل القارئ ينظر إلى العالم غير الحقيقي كعالم محاكى ومنطقي. 

وإذا كان البون كبيرا بين السرد غير الواقعي والسرد العجائبي، فإن البون ضئيل وقد يتلاشى ما بين السرد غير الواقعي والسرد التاريخي بالمعنى ما بعد الحداثي للتاريخية التي بموجبها يتجسد التاريخ سردية صغرى محبوكة حبكا قصصيا. 

وكثيرة هي توظيفات السرد غير الواقعي في رواية التاريخ، ومنها توظيف ما لا وجود له على الحقيقة. ومن المدهش حقا أن نجد هذا النوع من التوظيف معروفاً في رواية تعد من بواكير الرواية التاريخية العربية هي (وفاء الزمان) لأمين الريحاني، وفيها وظف السرد غير الواقعي داخل السرد التاريخي، لتكون رواية تاريخ لا رواية تاريخية.

ونشر الريحاني روايته هذه مطلع ثلاثينات القرن العشرين ووصفها بالتمثيلية لأنه بناها على مشاهد، لا بالمعنى النقدي الذي تعنيه كلمة مشهد كسيناريو درامي وإنما بالمعنى الحكائي. ولقد عرف عصر النهضة الأدبية أعمالا كثيرة اتبعت الموروث السردي العربي قبل أن تكتسح الساحة الادبية النماذج السردية الاوروبية باستثناء نفر من الكتاب تحصّنوا بذلك الموروث واستطاعوا تقديم نماذج مهمة من رواية التاريخ.

والواقعة التي تحكيها رواية (وفاء الزمان) هي سيرة حياة الشاعر الفردوسي مؤلف ملحمة الشاهنامة. وتتجلى اللاواقعية في خيالية جعل الزمان شخصية بشرية حية بين شخصيات بشرية أخرى هي: الفردوسي والسلطان محمود الغزنوي ورجل البلاط ورئيس الديوان ورسول وجمال. وقد بنيت الرواية على فصلين وفي كليهما يظهر الزمان عنصرا فاعلا في توجيه مسار الأحداث. وتبدأ بالسلطان محمود في قصره وهو يحاور الفردوسي في الشعر ودوره في تخليده أمجاد الملوك (إن في مكتبتنا كثيرا من القصص والاساطير المنظوم منها والمنثور المجموعة فيها أمجاد أسلافنا المحبين للشعراء والعلماء وأول من اهتم بجمعها لتنظم في ديوان متمم الاجزاء والتاليف هو الملك كسرى انو شروان)ص16.

ولم يكن همَّ الفردوسي أن يكتب ملحمة انما كان همَّه أن ينقذ مدينته طوس من الجفاف ببناء سد تتجمع فيه مياه الأمطار. ولان السلطان وعده أن يجزيه عن كل بيت من الشعر دينارا واحدا من الذهب، لذا قرر الفردوسي أن ينجز ألف بيت كي تأتيه ألف دينار.

وبالفعل أتم الفردوسي الملحمة الكبرى الشاهنامة بسبعة أجزاء و(ستين ألف بيت من الشعر العالي المخلد فقال السلطان للوزير أرسل الى الفردوسي حمل فيل من الذهب ستين الف دينار، فقال الوزير لماذا لا تكون فضة فقبل السلطان)، ولكن الوزير وشى بالفردوسي عند السلطان بخبث وعلى الرغم من أن السلطان رد بأن الفردوسي يقوم بما عجز دونه سائر المتقدمين المعاصرين من الشعراء، فانه قبل أن يعطي الشاعر دراهم فضة بدل الدنانير الذهب خشية من أن تكون للفردوسي مكانة في طوس، البلد الذي فيه معقل المعتزلة المناوئين لسلطته. 

وبينما الفردوسي (يناجي نفسه: يسوفني العبد في باب السلطان ولا تسوفني رباب القريض، أتطيعني القوافي وتنقاد المعاني إليَّ ويعصيني ذاك القابض على مفتاح الخزنة السلطانيَّة؟ ثم يشيع أن جزائي سيكون فضة لا ذهبا) ص21، وإذ بـ (الزمان) يظهر إنسانا شيخا (شيخ هرم جليل أبيض اللحية طويلها، محدودب الظهر وبيده عصا يعتصي عليها يدخل من دون أن يراه الفردوسي فيباغته. الزمان بصوت هادئ ناعم حازم: وستجلس وحدك على عرش أرسخ من عرشه وأعلى؟ الفردوسي ومن أنت أيها الشيخ؟ وما جاء بك إليّ؟ ـ الزمان: أنا الزمان) ص25.

وظهور هذه الشخصية يفاجئ الفردوسي من جهة ويغير أفق توقع القارئ من جهة أخرى بيد أن سير الحبكة يظل منطقيا بأقوال لا تحاكي واقعا فعليا إذ لا وجود حقيقيا لشخصية الزمان. 

ويجري بين الفردوسي وهذه الشخصية حوار فلسفي عن العبقرية والاحلام والشعراء والسلاطين، فيتهكم الفردوسي من منطق الزمان (قبح الله وجه الزمان) غير متفقه في ما أراد الزمان توصيله إليه. ويظهر السلطان وقد ارسل أعوانه في اثر الفردوسي الذي تنكر في زي الدراويش وعاش في فاقة وضنك، وعلم السلطان بذلك فندم على فعلته وطلب من الخزندار ان يسارع ويعد ستين الف من الدنانير الذهب ويحملها على جمال، ويسيرها عاجلا الى الفردوسي

في طوس.

والمفارقة التي بها تنفرج الحبكة انه ما أن يصل حتى يجد الفردوسي محمولا في جنازة الى قبره. ويكون ختام الرواية بالشخصية غير المعقولة (الزمان) وهو يقول: (ما صدَّق الشاعر ما قلته له منذ ألف سنة وهو أن جزاءه الأكبر عندي فقد عاش شاعرا فارسيا ومات شاعرا فارسيا وهو اليوم من اكبر شعراء العالم.. إن الزمان منصف الشعراء ومنصف الممالك وأربابها) وما يحمله هذا الختام من طابع تعليمي وعظي، يؤكد إتباع الريحاني للموروث السردي العربي من ناحيتين: أولا التوظيف الخيالي ببعده اللامحاكاتي وثانيا الغاية التثقيفية في توجيه الجمهور القارئ وتوعيته.