هوية الشعر

ثقافة 2023/03/20
...

  د. كريم شغيدل


هناك تحديات واجهتها الهويَّات التي يمكن أن نطلق عليها وطنيَّة أو قوميَّة، هو ما أنتجته العولمة من هدم للحدود، وانفتاح العالم على ثورة معلوماتيَّة حولت الكون إلى شاشة بحجم الكف، وليس قرية صغيرة كما أشيع سابقاً، لا حدود للثقافات ولا للحضارات، عالم مكشوف بإغراءات فاعلة، ومن المؤكد لا يوجد شيء اسمه مواطنة عالميَّة، هناك صدام ثقافات وحضارات كما ذهب هنتغتون، هناك تمحور ذاتي، لا قومي ولا وطني، لا هوية لأي شعب، بل هناك هويات، وثمة سباق هوياتي إن صح التعبير، يناسب الثقافة الاستهلاكية التي طغت على كل السرديات الكونية والقومية والوطنية الكبرى والصغرى.


 هناك تفتت لأنسجة المجتمعات وطرد متواصل للمشتركات، هناك عمليات تسليع للقيم وللمبادئ وللثقافة وللفكر وحتى للإنسان ذاتاً وكينونة، هناك ما يسمى بـ (الفتش) الثقافي، أي الدعاية السلعية الاستهلاكية التي تقدم السلعة بإيحاءات غريزية، تلعب أحياناً على سمات الهوية العرقية في الترغيب الجنسي، وحتى في مواقع (البورنو) الإباحية، هناك إغراء جنسي هوياتي كعرض نساء محجبات أو منقبات وذوات بشرة سمراء للعب على محفزات الإثارة، ذلك أنَّ كل الثوابت أصبحت هشة وقابلة للدحض، فما بالنا بمسميات أيديولوجية بنيت في حقب الرومانسية السياسية؟!

 إذا كانت الحداثة بمفهومها الفلسفي تعني التمركز حول العقل ونبذ كل الماورائيات، وهي التي أسست المفهوم العلماني للدولة بمرتكزاتها الديمقراطية المبنية على أساس الحرية والعدل والمساواة كما نصت عليه شعارات الثورة الفرنسية، وهي بعدئذ تعني الفصل بين السلطات واستقلاليتها، وفصل الدين عن الدولة، والبرلمان والانتخابات والمواطنة والحقوق والواجبات والحريات الخاصة والعامة إلخ.. فهذا يعني أننا لم نمر بعد بهذه المرحلة، وكل ما نسب للحداثة كان المقصود به التحديث أو المعاصرة، بدليل أن غالبية شعرنا الحديث الذي يروق للبعض إطلاق صفة حداثي عليه، يوظف الأسطورة والخرافة، ويستحضر المقدس برموزه وسردياته، ويستعيد اليومي والشعبوي، ويتغنى بالذاتي والمهمل، وهذه ثيمات لا علاقة لها بالحداثة، بل يمكننا أن ننسبها لما بعد الحداثة، وهذا تحدٍ آخر، لما يمكن أن نطلق عليه هوية بالمفهوم الأيديولوجي أو الأخلاقي.

إنَّ النص الشعري الحديث بنزوعه الإنساني جعل الشاعر يبحث في الخصوصيات التي تعيد الاعتبار لوجوده بين خصوصيات العالم التي يحتفى بها، وراح يوغل بالمحليَّة بوصفها طريقاً للعالميَّة كما أشيع، وطبعاً لا يمكننا أن نعوِّل على هوية إنسانيَّة للشعر لأنّه مفهوم فضفاض لا يمكن الإحاطة بمعاييره، بل إن صلاح فضل مايز علناً بين شعر سني تمثله القصيدة العمودية والشعر الحر، مقابل شعر شيعي تمثله قصيدة النثر في حوار له، وقد أثار هذا الرأي الكثير من النقاد وعدَّه البعض استفزازياً وأنه ليس رأياً عميقاً بل لغرض الإثارة، وقد استدرك لاحقاً بكونه كان يقصد تشبيه الصراع بين العموديين وشعراء قصيدة النثر، ونرى بأنه ليس معياراً مطلقاً، ربما نظر بمعيار الأغلبية والشيوع، لكن يمكن القول إنَّ الشعر العمودي ومن ثم الشعر الحر ينتميان إلى ما يمكن أن نسميه بالشعر الرسمي أو المؤسساتي أو شعر السلطة (ولا نعني هنا السلطة السياسية فحسب، وإنما سلطة المؤسسة الثقافية وسلطة التابوات المختلفة)، بينما تمثل قصيدة النثر الشعر الهامشي المعارض أو المتمرّد، وإذا كان التوصيف ينطبق على الشعر العمودي كلياً، فإنَّ الشعر الحر عُدَّ في بداياته تمرداً ولم تعترف به المؤسسة الثقافية إلا بعد عناء وتجارب متراكمة، وهو لا يمكن أن ننسبه لدين أو طائفة، لكن يمكننا القول بأنه شعر (مدني- مديني) من نتاج المدينة وتحولات سياقاتها الثقافية، وبذور الدولة الحديثة ومؤسساتها التي دأبت على صهر الانتماءات الفرعية لصالح مفهوم المواطنة.

   أثار محمد عابد الجابري سؤالاً وجودياً في ظاهره هو: (ما العربي؟) خلال إسهامته باللغة الفرنسية في ملف بعنوان (بأي معنى يكون الإنسان عربيا؟) في مجلة (قنطرة- معهد العالم العربي، باريس) في العام 1993، والخطاب كان موجهاً للقارئ الفرنسي، وهو سؤال يحتمل عدة إجابات بحسب من يوجه إليه السؤال، والحال نفسها تنطبق على سؤال آخر هو: (ما الأوربي؟) وفي الحالتين لا نحظى بإجابة واحدة محددة، كلٌّ بحسب نظرته وعلاقته بالآخر، ويخلص الجابري إلى إنَّ الهوية ما هي إلا «رد الفعل ضد «الآخر» ونزوع حالم لتأكيد»الأنا» بصورة أقوى وأرحب» إنَّ الهوية لم تعد مفهوماً عائماً أو غائماً بسبب ما كان سائداً من مهيمنات مؤسسية وأنساق أيديولوجية مضمرة ومعلنة، بل أصبحت حقيقة واقعية قائمة تشير إلى جماعة ترتبط عرقياً وثقافياً، فالانتماءات الدينية والطائفية والبيئية والنفسية ترتبط بالتكوين الثقافي الذي يشمل الزي القومي وعادات الطبخ وأنواع الطعام وتقاليده، وتقاليد الزواج والولادة والمآتم والمناسابات والأعياد الخاصة والطقوس والشعائر والقيم والتقاليد الاجتماعية الأخرى المرتبطة بالجماعة.

    تمثل البيئة بما يسودها من مناخ وما تتصف به من تضاريس ومحاصيل زراعية وظواهر طبيعية مؤثراً شعرياً لدى أغلب شعراء العالم، لكن هناك ظاهرة قد تكون خاصة بالشعر العراقي، وهي أن البيئة خرجت من كونها مجرد مؤثر إلى رمزيّات دينيّة وطائفيّة، فالجنوب بأهواره وقصبه وبرديه وطيوره يكاد يكون رموزاً شيعيّة، بينما نجد النواعير والكمأ والصحراء والآبار والإبل رموزاً سنيَّة، وتنفرد بيئة شمال العراق بجبالها ووديانها ومغاراتها وكهوفها وشلالاتها وأشجار الجوز والكستناء لتصبح رموزاً كوردية، في حين يمثل الرافدان (دجلة والفرات) إلى جانب النخلة رموزاً عراقيّة عامة، وهذه الهويات الجغرافية تدخل ضمناً في ثقافة الإنسان وتركيبته النفسيّة وتشكل رابطاً جمعيّاً ينعكس على ثقافة الجماعة وتعاطياتها اليومية مع الواقع أو المحيط المكاني، ثم تشكل ملمحاً ثابتاً من ملامح

الهوية.