الأساطير تصنع أيضاً أساطير

ثقافة 2023/03/20
...

 ياسين طه حافظ


تثيرنا كتابة اليوميَّات إثارة ناعمة وشبه سرية، فنجد متعة فيما يلامسنا من متع أو من مخفيات الغير. والسؤال: لماذا هذه الشذرات الحميمة تمتلك «ذلك» التواصل الخاص بأرواحنا؟، ولماذا نجد بها، مع كاتبها، غير الذي نحن عليه مع العالم، أصدقاء وأشياء وممتلكات؟. نحن هنا نقترب من أن نكون مع من يعرف ما فعلنا ولا يدري به الناس. هو يبدو الوحيد الذي يعرف ما أخفينا وما لا نريد أن نكشفه بسبب خصوصيَّة أو فرادة غير معتادة.

                                        

ويبدو أنّنا، دائماً، لا نخلو من سرٍّ ما، لا نخلو مما يجهله الناس عنا، من غرابة أو من حقائق مخفية نريدها لنا، وهذا القول يبقى صحيحاً إذا قلنا إنّنا دائماً نخشى من أن يُكتشَف خافٍ فينا، شيءٌ لا يصدق أو «هل هذا معقول؟». 

لكن ما يبدو مستغرباً فيناً هو معقول بالنسبة لنا، وهو بعض أساس من شخصيتنا. وما قد تذكره رسائلنا أو يومياتنا أو أحاديثنا الجانبيَّة الخاصة وما يتخفّى وراء طرائفنا، هي كلها معقولة: خسارات، عيوب أخلاقيَّة أو فكريَّة غزوات صغيرة سلوكات منحرفة اندفاعات، هوس أو بطولات منقوصة أو لا حقيقيَّة، كلها بعض منا وهي كلها معقولة وعلينا أن نكفَّ العناد والتعب في إقناع الناس. الحل هو الاستسلام لوجودها. ومن شاء غير هذا فليجرّب وأرى أنّنا سنلتقي في محطة واحدة. لقد تأكدتُ من هذه وسواها من تصرفات وأحداث ومواقف وتصريحات أسرَّ بها أصدقاء، منهم أساتذة علماء ومنهم  فنانون وكُتّاب. جاء منهم ما لا يخطر على بال، وأن في مضمراتهم أموراً كتلك الخفيَّة التي ذكرناها والتي تكوِّن القسم الفاعل والمهم  من شخصياتنا وشخصياتهم.

هذا يعني أنّي لستُ وحدي في ذلك. وإنّا جميعاً ناس غيرنا أمام الناس. وأولئك الذين يظهرون ويعرفهم زملاؤهم في العمل أو في الجوار، أو في النادي أو في الدائرة، ليسوا تماماً نحن. الأسماء والمظاهر وحدها متشابهة.

حين انتبهت لما فيَّ من مضمر أو سرّي، رحت أفكر كيف جاء وكيف تكوّن ولماذا احتلّني وبأي الأوقات. لكن هذه أسئلة لا تشفع لي من إجابتها جلسة تفكير. صرت متأكداً من شيء واحد هو أن أكثر ما يخص حياة الناس ليس ما يخص حياتي والصواب لهم ليس هو الصواب دائماً لي. فملاحظاتهم غير ملاحظاتي ومشاعرهم  ليست تماماً مشاعري وخبراتهم والتحارب ليست هي تلك التي مررت بها وإن كان الحدث واحداً! نحن متشابهون أشكالاً لكننا مختلفون، مختلفون جداً.

ما هو مفاجئ أيضاً، ثمة حقائق أخرى، وراء الحقائق التي تكوّنني وأني مزيج صنعته عوالم مختلفة وشخوص مختلفون وأحداث ورؤى وأصوات مختلفة. بعض هذه دائم مستتر في عالمي الشخصي الحالي وبعضها عابر أدّى فعلاً وترك أثراً وغاب.

إذاً، أنا صرت أدخل في المجهول، فيما لا أعرفه، في ظلال العالم أو العالم الذي أنا في ظلاله! واكتشفت ما أرعبني، ذلك أنني ومنذ طفولتي في حالة تناقض وصراع تضادات بين أنانيتي وبين اللا أنانية، بين ذات تريد نفسها وبين عالم يريد أن يصنع ذاتي أو يريد أن يعيد صنعها، وأن المحصلة بعد عقود هو هذا «الأنا» الخليط أو المزيج المدمّر أو المشوّه أو المسخ، الذي يكتب الآن.! هذا المخلوق الأسطوري. 

أسطورة تعاون على صنعها الآخرون بتصوراتهم عنه وصنعها هو بنفسه بقراءاته وتخيلاته. 

والنتيجة أنني كما أرى نفسي وأتصورها من ناحية وكما يراني الناس ويتصورونني من ناحية أخرى، وقد أسهمت في صنعي معاً، الحياة والثقافة، بل حتى شخوص الروايات أبطالاً أو مهزومين. أجد فيَّ بعضاً من عشّاق الأساطير القديمة ومنكسري الحروب والأسرى. وأكثر من هذا أني واحد من الممتَحَنين في التاريخ.

إنَّ هذا الشخص الأسطوري، بمعنى الذي صنعته الأساطير، صار هو أيضاً صنّاع أساطير ليزيد غموض العالم وليزيد عدد التائهين ويسهم أكثر في وجود الوهميين، اللا حقيقيين، وأولئك الذين أوجدتهم الصدف والنوايا، فلا أحد يعرفهم تماماً، ولا هم يعرفون أنفسهم أيضاً ونحن وأولئك وغيرنا وغيرهم يعيشون معاً، بضعة مشتركات وكثير اختلاف.

وأمام توزعنا وتنوّعنا، كل ضمن فرديته، دائماً ما يُوصي الحكماء والمربّون وأصحاب الرأي، أن يكون للواحد منا هدف يسعى إليه. لماذا؟ لأن هذا الهدف يجمع شتاته ويذكره بوجوده المادي الواقعي فلا يتيه. في الوقت نفسه، ولا يغضب على أصحاب العقائد والالتزامات، هو أيضاً «يصادر» مكوناته التي تحدثنا عنها وفي أفضل الأحوال يخفف من اقتسامها له، فيصعب توجهه لهدفه أو للضوء الذي رأى.

نحن إذا بين حالين، بين تكوين هو ذلك الذي صار نحن وبين هدى وإرشاد أو توجيه للانقاذ، كما يقولون. لإبقاء الحياة واقعيَّة عملية وكما متفق عليها، رسميَّة بشكلٍ من الأشكال...

بعد كل هذه السنين وبعد كل التطور الثقافي الذي شهده العصر ومدى الحرية المتاح، يمكن أن يقلّ الكذب وتتكاشف الناس بما تحسّ حقاً وبما تفكر به حقاً وما ترى حقاً! فاسمحوا لي بالقول، وبعد كل تلك التفاصيل:

أولاً، إنَّ كلَّ نفسٍ حبيسةُ أسطورتها الخاصة يرويها كل فرد عن نفسه ويعيشها كل فرد كما يراها هو ويحس بها هو. ولأنه يكررها ويرويها لنفسه وللناس باستمرار، ينتهي بالاقتناع التام بها، بأنَّها هي هذه الحقيقيَّة وهي أيضاً التي يراها ويعرفها الناس. وحقيقة الأمر هي ليست سوى رؤية شخصية “مكوّنة” من عديد المصادر، هي محرّفة قليلاً أو كثيراً عن الواقع. ومثلما هي رؤية شخصية للنفس، للآخرين رؤاهم لها، ورؤى مختلفة. فلا يفزع اذا ما فوجئ برأي فيه لا يتوقعه عنه، أو عن عمله، أو عن عموم شخصيته وعموم أو بعض ما يرى.

المفاجأة والاستفزاز والافزاع يأتي من أن الكلام يُحدِث يقظة، ينبِّه لحقيقة أخرى هي أنّك لست كذلك! لست كما ترى نفسك! إني أراك غير ما أنت تظن!، كيف نجد حلاً؟، هل تغير نفسك؟، وهذا يعني تعيد تكوينك أو صناعتك، أم تغير تصور وفهم ورؤية الآخرين لك؟.

 كلاهما غير ممكن ولا عملي، فليس غير أن نبقى كما نحن عليه، مختلفين فيما نرى ونفهم ونظن. وهو واقع يجمعنا ونعيش، باختلافاتنا كلها، فيه. نبدو كما نبدو، خطأً أو صواباً أو نصف نصف، ولا حلّ! والأكثر خطورة أنّنا أيضاً نرى الآخرين غالباً انطلاقاً من فهمنا ومن رؤيتنا لأنفسنا. عموماً الحياة غير ما نريدها تكون، وكل المسعى هو أن نجد حلّاً وسطاً لنعيش معاً وفي أرض واحدة وربما لهذا وجدت القوانين والأنظمة والتشريعات كلها، فقط للتقليل من وطأة الاختلاف ولتبقى الحياة على ما بها وكما نحن فيها، حياة مختلفين ومختلفات.