الإبادة الجماعيَّة

ثقافة 2023/03/22
...

  حسب الله يحيى


 هذا كتاب غير مألوف، وغير متداول، وغير مرغوب فيه من قبل الطغاة في كل مكان. كتاب يكمن سره في أنه لا يحتفظ بسر، وانما يكشف عن المسكوت والمكتوم والخفي في تاريخ البشرية. شاغلة الجرائم التي ارتكبت ضد البشرية، وفي العديد من البلدان، وعلى مر التاريخ. 

هو كتاب، يبحث وينقب ويدقق في المشترك للإبادة الجماعية التي ارتكبتها القوى الحاكمة في مراحل تاريخية مختلفة.. متجاوزة اتفاقية الأمم المتحدة الصادرة عام1948 ‪والتي تمنع بموجبها الإبادة الجماعية‬‬‬.

ومع أن مؤلف الكتاب : (نورمان م. نايمارك) يشير الى أن ( العديد من الوثائق التأسيسية للحضارة العالمية في العهد القديم والياذة هوميروس وثوسيديدس، إذ تصف كلها تاريخ الحروب البيلوينسية (ارتكاب جريمة الإبادة الجماعية)، إلا أن المؤلف لا يوثق ابدا للمقابر الجماعية التي تم الكشف عنها بعد عام 2003 والمقبرة التي عرفت ب (الخسفة) في الموصل تلك الحفرة التي ألقيت فيها آلاف الجثث في العام  2014 من قبل تنظيم داعش الاجرامي، ويغيب عنه كذلك الكشف عن المقابر الجماعية في كوردستان أبان السلطة السابقة ، وكذلك الانتفاضة الشعبانية في وسط وجنوب العراق.

وفي ما نعرفه ان هذه المقابر، تعد صورة مكبرة وواضحة ووثيقة حية تدين اولئك الحكام الذين عملوا على الإبادة البشرية بهدف الحفاظ على سلطتهم ووجودهم واستئثارهم وهيمنتهم على البشر والارض معا . 

الكتاب تاريخي ، والتاريخ الاممي، يفترض أن لا يتجاوز أحداثا دموية واضحة للعيان، فيما يسلط الضوء على احداث بعينها في بلدان اخر. 

نعم.. الكتاب صادر بلغة اجنبية، ومترجمه (أحمد باسم سعدون) غير مسؤول عن وثائقية ومصداقية ما اورده المؤلف، وكذلك (دار المأمون للترجمة والنشر) التي تولت إصدار الكتاب في العام 2022 .

بل إن دار النشر والمترجم، مشكوران على ترجمة ونشر هذا الكتاب الذي تفوح الجريمة وتزهق الأرواح وتسيل الدماء من كل صفحاته الـ 226 .

إنه كتاب لا يقرأ للمتعة، وانما لتنشيط الذاكرة البشرية بما كانت عليه من أحقاد وكراهية وتصفيات للاخرين الذين يختلفون معهم في الرأي، والعمل على تصفية وجودهم وسلب حياتهم وممتلكاتهم واغتصابهم كذلك.. حتى لا تتكرر عنونة الجرائم ولا تسود الكراهية ولا يعم البلاء. 

نعم.. إن الإبادة الجماعية التي قطفت آلاف الأرواح في الهولوكست وإبادة الارمن، ورواندا، وما ارتكبه المغول والاسبان والعثمانيون في حقب زمنية مختلفة، لا يمكن أن تنساه البشرية ابدا، وإنما أن تنقل مرارته ومآسيه على مر الازمنة، حتى تتجنب البشرية تكرار ما حصل وتتجه إلى قبول الآخر والتعايش معه بحب وسلام وأمان. 

نعم.. لقد ( كانت الإبادة البشرية وما زالت جزءا من تاريخ البشرية منذ بداياته، ولا يوجد مبرر يجعلنا نعتقد أن اسلافنا من عصر ما قبل التاريخ، كانوا اكثر أو أقل منا تمدنا عندما واجهوا واقصوا الشعوب الاخرى والاعداء المشتبه بهم، فالعائلات والعشائر والقبائل الممتدة قد ارتبطت بصورة روتينية بأعمال إبادة جماعية ضد منافسيهم). 

ومعلوم أن جرائم الإبادة ( جريمة الجرائم) مختلفة تماما عن جرائم الحروب التي حددتها اتفاقية لاهاي عام 1898 وتطورت من قبل محكمة نورمبرغ عام 1946 ومن ثم اتفاقية جنوى عام 1949، ذلك ان جرائم الحروب تشمل في المألوف جرائم (النهب وقتل الرهائن واستخدام الغاز وقتل سجناء الحروب، اما الإبادة الجماعية فتعني " الجرائم المرتكبة ضد الإنسانية". 

وقد ضمنتها معاهدة روما عام1998  بانها "القتل والافناء والاستبعاد والاخلاء من السكان والنقل القسري للسكان والتعذيب.. والجرائم الجنسية بما فيها الاغتصاب". 

ويشير المؤلف ان أصل ( الإبادة الجماعية) قد "اشتق من فكر ونشاط المحامي البولندي اليهودي رافائيل لمكن" الذي كان قد درس القانون وركز اهتمامه على موضوعه القتل الجماعي، بوصفها جريمة عالمية". 

وكانت إبادة الارمن عام 15 19ومجزرة الاشوريين المسيحيين في شمال العراق عام1933  ، مثار اهتمام رافائيل لمكن، الذي دعا الى أن يكون هناك قانون دولي يحول دون تكرار هذه الجرائم الهمجية ضد الإنسانية.. 

إن التعامل بكراهية مع من نختلف معهم عرقيا او دينيا او اجتماعيا وتدمير حضارتهم وثقافتهم والاستيلاء على أراضيهم وتهجيرهم كلها جرائم مضادة للبشر.. وهي من الأساليب التي اعتمدها المغول ومن ثم النازية. 

وقد استخدم رافائيل لمكن مصطلح (الإبادة الجماعية) بوصفه (دمار امة او مجموعة عرقية) وهو ذات المفهوم الذي اورده جينوس الاغريقي والذي حدده بـ (سلسلة او قبيلة) او ( القتل /قتل الآخر) كما وردت في المفهوم اليوناني القديم. 

وكانت الجمعية العامة للأمم المتحدة قد اصدرت في 9 ديسمبر 1948‪ معاهدة "منع الإبادة الجماعية" ووصفتها بانها "مجموعة متنوعة من الأعمال المرتكبة بنية التدمير- الكلي او الجزئي- لمجموعة قومية او اثنية او عرقية او دينية". 

ومع أن الإبادة الجماعية كانت قد ظهرت مع بداية المجتمع البشري وان ( العهد القديم) قد نص عليها، الى جانب الفتح الاثيني لميلوس واشكال الحروب الاسبرطية وظهور الدمار الروماني لقرطاج، الا أن هذا الامتداد التدميري لم يتوقف.. فقد لاحظت الناقدة حنة ارندت" ان الوحشية والعنصرية الاستعمارية، ساهمت في رسم سياسات الإبادة الجماعية لهتلر في اوروبا". ‬

ويشير المؤلف نايمارك إلى أن " الإبادة الجماعية ليست متشابهة، ببعضها وانه ينفذ في غضون أيام او اسابيع والبعض الآخر قد يستغرق عقودا، وبعضها يزهق ملايين الأرواح..". 

إلا أن عصور ما قبل التاريخ قد ارتكبت فيها جرائم وتعذيب واكل لحوم البشر، وجرت تصفيات بين القبائل والعشائر في العصر الحجري والعصر البرونزي والتي تؤرخ لـ 1200‪سنة ق. م، وقد رصدت هذه الأعمال الفظيعة عن طريق شهادات مدونة، وأشار إليها كتاب" تاريخ الحرب البيلوبونيزية" لثيوسيديدس الذي روى لنا دمار مدينة (معلوس) في الفترة " 415 - 416" ق. م وقصص الرومان في هدم قرطاج /140‪ ق. م. ‬‬‬‬‬‬

ويوثق المؤلف ل " نزوح اليهود من مصر وتشردهم في الصحراء واحتلالهم ارض فلسطين.. مسار السرد الرئيس للعهد القديم" وبات شعار ( لا تترك شيئاً حيا  يتنفس) هو السائد بعد (الدمار التام) داخل " حدود الوطن الجديد لبنى اسرائيل"!.

الكتاب يروي أحداثا مروعة لـ "ذبح الاخيون أبطال طروادة الذين دافعوا عنها ولم يسمحوا لأحد بالاستسلام".

بينما تصور ( الالياذة)  لفرجيل "صورة مخضبة بانهار من الدم في طروادة"، وكيف اعدم الاثنيون الرجال البالغين جميعهم وباعوا النساء والأطفال وسكنوا المكان..

ونتابع امبراطورية المغول الشاسعة التي أفنت وأبادت شعوبا بكاملها و" خلال قرنين من حكم المغول قتل ما يزيد عن 30 مليون شخص في الحروب والانتقام ".

وينبه المؤلف إلى أن" العثمانيون ادخروا الحرفيين من الارمن" من خبراتهم فيما ابادوا النساء والأطفال وقتل الآخرون بوحشية.. وهذا الهدف نفسه اتبعه المغول باستثنائهم الحرفيين والتجار. كذلك يتناول الكتاب الحروب الصليبية وكتب ان الصليبيين" عدو أنفسهم جنودا للمسيح" فيما كانوا يمارسون الاغتصاب والنهب والقتل لان البابا قد أجاز لهم ذلك.. حتى انتشرت "ظاهرة اكل لحوم البشر على نطاق واسع". 

وجاءت اساليب الغزو الاسباني لإبادة الهنود.. ويكتب دي لاس كاساس "ازهق الرجال والنساء أرواحهم بانفسهم شنقا وشنقوا حتى أطفالهم.. ". بينما ينقل عن الاسبان أيضاً "أنهم كانوا ملطخين بالدماء ولا يمشون فوق شيء سوى الجثث".! 

ويعرض الكتاب إلى تعرض" السكان الاشوريين الأرثوذكس لسياسة الإبادة الجماعية.." الى جانب إبادة الأرض وعدم استغاثة العالم إليهم.. 

وينقل المؤلف عن هتلر قوله" اعتقد انني اتصرف  طبقا لرغبات  الخالق القدير" مما جعله يقتل مليوني يهودي بالغاز وثلاث مليون ونصف رميا بالرصاص والمجاعة والمرض والتخلص من المعاقين والغجر والمسنين". 

ثم ينتقل المؤلف لنقل صورة عن بشاعة الجرائم التي ارتكبت في عهد ستالين ودعوته الى" ازالة عدونا الطبقي من على وجه الارض" و" صنع الصابون من "الكولاك "- الفلاحين الاغنياء في روسيا- واجبارهم على حفر قبورهم بانفسهم حتى وصل عدد الضحايا الى 10 ملايين شخص.. 

كما أن عداء ستالين للوعي القومي في اوكرانيا قد جعله يعمد الى الاستيلاء على أراضيهم وإبادة الآلاف منهم وعمد الى حرمانهم من انتاج الحبوب والحيلولة دون عملهم ككيان مستقل. 

إن الأحداث التاريخية التي يسردها هذا الكتاب المهم من شأنها أن تكون دروسا أمام الشعوب التي تنشد الحياة الامنة وتناضل من اجل حرياتها  وصولا الى أوطان حرة وسلام دائم.. مثلما تقدم تجارب يفترض أن تتوقف عندها السلطات الدكتاتورية في كل مكان من العالم.