كنا نحن صبايا وصبيان زماننا، نلبس أجمل الملابس في (يوم الدخول.. دخول السنة)، ما كنّا نعرف أنه (21 آذار) أو أنَّه (عيد النوروز). وكنّا نرى أمهاتنا وأخواتنا يحملن (صواني) فيها شموع وأوراق خس وأغصان الياس وحامض حلو، وفي الوسط تستقر طاسة حنّاء كأنها عروسة. وكانت البنات يحملن (صواني) مزينة بالخضرة، مليئة بمنّ السما وأصابع العروس، متوجهين جميعاً للإمام العباس القريب من مدينتنا الشطرة. وباستثنائنا نحن الصبايا والصبيان فإنَّ النساء كانت لهن طلبات يتوجهن بها للإمام العباس وقد نذرن له ما امتلأت به الصواني من (حلاّل المشاكل) بإصلاح حالها مع زوجها أو عودة غائب، بينما البنات حملن (صوانيهنَّ) المزينة باصابع العروس، نذوراً إنْ أصبحن في (دخول السنة) القادم عرائس.
والمفرح أنَّ إخوتنا الكرد لهم (صوانيهم) أيضاً، بمفارقة لطيفة، إنَّها تملأ بسبع مواد تبدأ بحرف السين هي: سير (ثوم)، سكه (عمله نقدية)، سنجر (فاكهه مجففة)، سبزي (خضرة)، سبيكة (قطعة ذهب)، ساهون (حلويات)، سماق، وسركه (خل). وتوضع في مقدّمة المائدة مرآة وعلى جانبيها شمعدانات تحمل شموعًا مضيئة بعدد أولاد الأسرة من الذكور والإناث، ومرآة وقرآن وسمك وفاكهة ومكسرات وماء الورد، غير أنَّ وجود الحلويات شرطٌ واجبٌ في صواني كل المحتفلين بالنوروز في كردستان وإيران وأذربيجان، وصواني دخول السنة في الشطرة والسماوة وميسان.
و(نوروز) تعني باللغة الكردية (يوم جديد New day) تتم فيه الأرض دورتها السنوية حول الشمس، لتبدأ دورة جديدة تدخل فيها شهر الخصب وتجدد الحياة. وفيه تبدأ الأفراح استبشاراً بحلول عهدٍ جديدٍ تتحول فيه الطبيعة الى جنة خضراء، يتوجه إليها الناس لمعانقتها وترتدي فيه الأسر الكرديَّة الزي التقليدي المزركش بالألوان الفاتحة والزاهية، وتصدح فيه الأهازيج، وتتشابك الأيدي في حلقات رقصٍ ودبكاتٍ ومهرجانات غنائيَّة شعبيَّة تستمر حتى ساعات متأخرة من الليل، تتخللها مقاطع شعريَّة تتحدث عن الثورات ضد الطغاة، حيث يعدّ نوروز رمزاً للتحرر من الظلم والاضطهاد في كردستان وعددٍ من دول المنطقة.
ومن جميل ما قرأت أنَّ هنالك علاقة بين (نوروز) و(تموز وعشتار). فالمعروف عن حادثة (تموز) أنَّه في آخر مرَّة يذهب الى تحت الأرض ثم يأتي الى وجه الأرض كإله، وأنَّه كان يحتفل بموت وحياة (تموز) في وطن سومر، وأنَّه في 21 آذار من كل عام كان السومريون يعقدون احتفالات كبرى في حياة (تموز) ويعرفون هذا اليوم
بعيد (زكمك).
والحادثة ذاتها ترد في ملحمة الشاعر الكردي الكبير أحمدي خان (مم وزين)، إذ يبدأ الملحمة بيوم نوروز (21 آذار/ مارس)، فهنالك شبهٌ كبيرٌ بين قصة (تموز وعشتار) وقصة العاشقين (مم وزين)، إذ تمتلئ حياة (مم) بالعذاب والفراق بعد معرفته لحبيبته (زين)، وتصبح حياتهما مشابهة للحياة الكارثية لـ(تموز) الذي يذهب الى الأسفل، بينما يودع (زين) في السجن الى الموت.
هذا يعني أننا العرب والكرد شعبان لنا تاريخٌ مشتركٌ حتى في الطقوس والأساطير والأعياد، وأنَّ نيروز (كاوه) أو نوروز (سومر) الذي وحّد العرب والكرد آلآف السنين، سيهزم يأس من يرى استحالة إصلاح الحال، وسيبقى ينعش مشاعر المحبة والتآخي والتفاؤل بين الشعبين.. اليوم وغداً.