نازك الملائكة.. الشاعرة التي أعادت للقصيدة عقلها الواعي

ثقافة 2023/03/23
...

  البصرة: صفاء ذياب



العراق يحتفل بمرور 100 عام على ولادتها

  (تدخل “نازك” غرفة الاستقبال وبيدها القصيدة وتقول: هذه القصيدة مشكلة جديدة من مشكلات ديواني المنحوس - شظايا- فتجيب “إحسان”: إن عشاق الشعر الأوروبي سيفهمونك ولا شك. أبو نزار: ما هذا الشعر الجنوني، إنه هذيان، أين الوزن، أين القافية، ما معنى الموت، الموت، الموت؟! نازك: هل تعني أنك لم تفهم فكرة القصيدة؟ أبو نزار: الفكرة تصويريَّة لا بأس بها، ولكن هذا الوزن المبتكر لم يطربني وأنا لا أفهمه، اسألي أمك. أم نزار: لقد قرأت القصيدة اليوم وقلت لها: إنها أشبه بالشعر المنثور مع أنها لا تخلو من وزن غريب. إحسان لنازك: اكتبي عليها أنها من الوزن الفلاني ليصدقوا.

نازك: لقد قلت لك إنَّ الجمهور سيضحك مني ولكني- مع ذلك- واثقة أنَّ هذه القصيدة ستكون بداية عصر جديد في الشعر العربي.

أبو نزار: من يقرؤها؟ أنا والعراقيون الذين اعتادوا رصانة المتنبي وجزالة البحتري؟ إنّك لم تستطيعي الخروج على الذوق العربي، فأنت واحدة، والأمّة ملايين.

نازك: قولوا ما شئتم، أقسم لكم إنّي أشعر اليوم بأنّي قد منحت الشعر العربي شيئاً ذا قيمة.

نزار: إنَّ العمل الذي يقابل باختلاف عظيم في الرأي لا بدَّ أن يكون عظيماً).

  هذا الحوار الذي دار في منزل الشاعرة نازك الملائكة مع أسرتها في 27 تشرين الأول 1947 حول قصيدة الكوليرا، وقد نقله لنا الدكتور عبد الهادي محبوبة في تقديمه كتاب (قضايا الشعر المعاصر)، يلخّص بشكل أو بآخر الصراع بين جيلين مختلفين، الجيل الذي تربّى وتذوّق الشعر الكلاسيكي، متمثلاً بالمتنبي والبحتري وغيرهما من الشعراء العرب، وجيل نازك الملائكة والسياب وشاذل طاقة وعبد الوهاب البياتي الذي أراد أن يقدّم رؤية جديدة للشعر

الآن.

ففي هذا التاريخ بالضبط، انبثقت أوّل قصيدة خرجت عن شكل الشعر العربي إلى آفاق جديدة، من دون أن نلتفت من المؤسس أو المبتكر لهذا الشكل، إن كانت نازك الملائكة أم بدر شاكر السياب أم علي أحمد باكثير، أم أي شاعر آخر، فهؤلاء جميعاً نتاج تجربة ثقافيَّة جديدة انتقلت بالقصيدة العربيَّة من الصحراء إلى ضفاف

الأنهار.

 

حياة مبدعة

احتفلت مدارس العراق يوم الخميس الماضي بمناسبة مئويَّة ولادة الشاعرة نازك الملائكة بناءً على قرار مجلس الوزراء العراقي، هذه البادرة التي يمكن لها أن تعيد النظر في بعض مناهجنا الدراسيَّة، وربّما ستلتفت لأعلام الأدب والفكر العراقي خلال السنوات المقبلة ليترسّخوا في أذهان أطفالنا وتلاميذنا وطلبتنا.

فالملائكة التي ولدت في 23 آب 1923 في بغداد، ورحلت في العام 2007 في القاهرة، عاشت حياةً ملؤها الأدب والإبداع. فقد ولدت في بيئة ثقافيَّة من أمٍّ شاعرةٍ وأبٍ كاتب. تخرجت في دار المعلمين العالية عام 1944، ودخلت معهد الفنون الجميلة وتخرجت في قسم الموسيقى عام

 1949.

وفي عام 1959 حصلت على شهادة ماجستير في الأدب المقارن من جامعة ويسكونسن- ماديسون في أميركا. وعُيّنت أستاذة في جامعة بغداد وجامعة البصرة ثم جامعة الكويت... عاشت في القاهرة منذ العام 1990 في عزلة اختياريَّة وتوفّيت فيها في 20 حزيران 2007 عن عمر ناهز 83 عاماً بسبب إصابتها بهبوط حاد في الدورة الدمويَّة ودفنت في مقبرة خاصة بالأسرة غرب

القاهرة.

في العام 1947، أصدرت الملائكة مجموعتها الشعريَّة الأولى (عاشقة الليل)، لتليها عدد من الأعمال الشعريَّة مثل: شظايا ورماد 1949، قرارة الموجة 1957، شجرة القمر 1968، ويغير ألوانه البحر 1977، مأساة الحياة وأغنية للإنسان 1977، الصلاة والثورة 1978، قصيدة الشهيد.

وعلى الرغم من شهرة الملائكة كشاعرة رائدة لقصيدة التفعيلة، أو كما سمّي حينها (الشعر الحر)، غير أنَّ أهميتها الأكبر تكمن في كونها ناقدة من طراز خاص، فهي الشاعرة الوحيدة من جيل الروّاد التي قدّمت رؤى جديدة في عالم القصيدة الجديدة، لاسيّما بعد نشر كتابها (قضايا الشعر المعاصر) في العام 1962، لتُلحقه بكتابها (الصومعة والشرفة الحمراء) في العام 1965، ومن ثمَّ (التجزيئيَّة في المجتمع العربي) 1974، وهي دراسة في علم الاجتماع، وفي العام 1992 أصدرت كتابها المهم (سايكولوجيَّة الشعر).. ومثلما بدأت الملائكة حياتها بالشعر، فقد ختمتها بمجموعتها القصصيَّة الوحيدة (الشمس التي وراء القمة) في العام 1997.


الملائكة الناقدة

فرادة الملائكة في التنظير للشعر الحرِّ وإعادة قراءة تجربة مهمة في مثل علي محمود طه، ودراستها عن سايكولوجيَّة الشعر، وضعها في مصاف النقّاد المؤسسين في النقديَّة العراقيَّة، لا سيّما بعد عملها كأستاذة للنقد الحديث في جامعتي بغداد

والبصرة.

وعلى الرغم من حديث النقّاد عن الملائكة كشاعرة، غير أنَّ أغلبهم أعرب عن تلمذته على يدها كناقدة، منهم الناقد الدكتور حاتم الصكر الذي يقول في دراسة له: نظّرت الشاعرة الناقدة نازك الملائكة إلى النقد بكونه نشاطاً مستقلّاً، وحاولت أن تجد له معايير لغويَّة وفنيَّة واجتماعيَّة، لكنّها نظّرت إلى الجمهور نظراً اتصالياً في جلِّ كتاباتها، فها هي تبحث في كتابها النقدي الرائد (قضايا الشعر المعاصر) في (الشعر الحر والجمهور) وتشخّص مقاومة الجمهور العربي حركة الشعر (الحر) ممّا نتج عنه رفض الجمهور “لأنّه لا يتقبّل الشعر الجديد” و “لا يحاول فهمه”، وراحت الشاعرة الناقدة تستقصي أسباب هذا الموقف الرافض فوجدت أنَّ جزءاً منه سببه (التأخّر) في ثقافة الجمهور ووعيه الشعري والأدبي وذوقه قياساً إلى الشعراء

الشباب.

مضيفاً: لكنَّ نازك ظلّت على اعتقاد راسخ بالتوصيل الشفاهي للشعر، وطالبت الشعراء بمطالب فنيَّة، ما هي إلَّا بقايا للذاكرة الشفّافيَّة. وهذا واضح في رفضها التدوير في الشعر. فالقصيدة المدوّرة في رأيها تُتعب السمع وتجعل التنفّس صعباً لأنَّ الوقفات معدومة، كما أنَّ تواتر التفعيلات الكثيرة مستحيل لأنّه يتعارض مع التنفّس عند الإلقاء. وحتّى الشعر الحر يعاني عندها آفة التدفّق الذي ترى أنّه يجعل المرء يحسّ عند القراءة وكأنّه يجري في معترك لاهث لا راحة فيه... بهذا الشكل تعترض نازك على الطبيعة التدفّقيَّة للشعر الحرّ، وعلى القصيدة المدوّرة، واعتراضاتها كما رأينا تستجيب لوظيفة شفاهيَّة يؤدّيها النص؛ وإلَّا فمن أوجب على الشاعر أن يراعي التنفّس أو السمع عند كتابة قصيدته وهو لم يكتبها لتلقى، بل لتقرأ مكتوبة أو مطبوعة. ويقابل الإرسال الشفاهي عند نازك، التلقّي السمعي. وهنا تدخل الناقدة إلى منطقة التقبّل والاستجابة، ولكن بنقل المزايا الشفافيَّة ذاتها. فهي تفترض المتلقّي مستمعاً، وأنَّ وسيلة اتصاله بالنص هي أذنه أو حاسّة سمعه التي وضعت لها نازك تاريخاً تقبّلياً قائماً على القبول أو الرفض للظواهر

 الإيقاعيَّة. 

من جهته يرى الشاعر والناقد الدكتور علي جعفر العلاق أنَّ الملائكة “كانت جريئة حين واجهت جداراً صلباً من قيم السلوك الشعري والاجتماعي والثقافي، واستطاعت ومعها زميلها الشاعر الكبير بدر شاكر السياب هزَّ شجرة الشعر العربي هزّاً عنيفاً بعث فيها الحياة وروح الدهشة من

 جديد”.

مبيناً أنَّ الملائكة لم تكن شاعرة فقط، بل كانت ناقدة من طراز ممتاز، وحين كتبت القصيدة الحديثة كانت ترقب المشهد الشعري بيقظة عالية وسجلت العثرات الأولى لهذه التجربة كما سجلت خطوات النجاح الأولى، وقد يجادل البعض في أنَّ نقد نازك كان وسيظل أكثر أهميَّة من الشعر الذي كتبته ومع ذلك فإنَّ نازك قد تفرّدت كشاعرة بوعيها لشكل الشعر الجديد وتحقيقها مستويات عالية من البناء الشعري في معظم

 قصائدها.أما الناقد الدكتور عبد الله إبراهيم فقد بيّن أنَّ الملائكة تعد الرائدة الحقيقيَّة للشعر العربي الحديث فهي لم تتوقّف عند كسر نظام الشطرين واعتماد مبدأ التفعيلة الواحدة، إنّما قامت بأكثر من ذلك حينما أنشأت فضاء شعريَّة القصيدة تنهار فيه القيم القديمة الموروثة بما فيها الموسيقى ونظام التشطير ويحلُّ مكان كلّ ذلك حسّاسيَّة شعريَّة جديدة تطرح فيها موضوعات غير تقليديَّة وما نظام التفعيلة عند نازك إلا إيقاع داخلي يضفي الموسيقى على التعبير الشعري لديها ومن هذه الناحية تعدُّ الشاعرة التي دشّنت فكرة الحداثة الشعريَّة في الأدب العربي. فيما شُغل الآخرون فقط بكسر النظام التقليدي من دون الاهتمام بتأسيس ذائقة شعريَّة مبتكرة.

مضيفاً أنَّ نازك كانت على وعي بعمليَّة التحديث هذه ليس فقط بحكم قراءاتها واطلاعها على الثورة الشعريَّة الحديثة في العالم، إنَّما لأنَّها فوق ذلك عارفة تماماً بما أقدمت عليه وكتابها (قضايا الشعر المعاصر) يعدُّ الأوّل والأهمّ الذي قدّمت فيه وصفاً نقديّاً وتقنيّاً لقصيدة التفعيلة. هذا الكتاب لا يزال إلى الآن يعدُّ المرجع الأساسي للشعر الحر في الثقافة العربيَّة

الحديثة.