هلدرلين.. من الشعر إلى الصمت والجنون

ثقافة 2023/03/23
...

 طالب عبد العزيز 

  كانت مدينة لاوفن الواقعة على نهر نيكار* والتي غادرها باكراً الشاعرُ الالماني فريدريش هلدرلين (1777 - 1843) بحسب رغبة والدته، ليدرس الكهنوت في إحدى المدارس الدينيَّة، ومن ثم طالباً، تسحقه السنوات في المعهد اللاهوتي، يدرس وينام في سكن داخلي، بمدينة توبجن، ومن ثم يتلقى صنوف العذاب بمفارقته زوجة الثري جاكوب غونتار السيدة سوزيت، التي تعلقت به، وأحبّها في مرحلة نضجه الأول، كان ذلك كله وراء ضياع نصفِ عمره مجنوناً، لا يكلمُ أحداً، منهدم الجسم، مفرداً في غرفة بالطابق الاول، ببيت تسيمر النجار، حيث كان يطيل النظرَ من نافذة البيت بنهر نيكار.

 وهو يجري ثانيةً، بماءِ عينيه الكليلتين، وليغادره في ما بعد، والى الابد، في رحلة الصمت والجنون، حيث كتب قصائده القصيرة. 

   لا أعرفُ لماذا تأخذني حياة هلدرلين هذه، قبل قصائده الى ما كنته ذات يوم، وأراني في كثير من تفاصيل حياته الأولى، يوم كانت المدرسة حملاً بائساً ثقيلاً على ظهري، فما أنْ تعلمتُ القراءة والكتابة حتى غدتْ كتبُ الشعر هي ضالتي في القراءة، ومثلُ عصف البرق أخذتني رائحة الأنثى على جناحها، صبيَّاً، شديد الغُلمة الى إحداهنَّ، لكنها سريعاً ما طويتْ في تراب الازمنة والفقد، ومع أنني لم أفارق المكان بالجسد حيثُ ولدتُ، إلا أنني ما زلت أفارقه بالروح عاماً فعاماً، بعد أنْ أتت المدينة بفوضاها عليه، وذهبت عوالمه الى غير رجعة. ها أنذا، أتأمله، لكن، من دون صمت وجنون، أنوءُ  بهيئته الأولى، وغيابه الأخير، ومن الشُّباك حيث أجلسُ وأكتبُ السطور هذه، أطلُّ بعين كليلة على نهر الطفولة (السَّراجي) وهو يموت، لأجدَ أكثر من سبب ونتيجة وراء تشابه حياة الشعراء.

    ما زلتُ أحتفظ، ومنذ أربعينَ عاماً بترجمة لحياة وشعر هلدرلين، في الكتاب الذي ترجمه وقدم له فؤاد رفقة وصدر عام 1974 عن الدار الاهلية ببيروت، إلا أنني لم أتأخر باقتناء كتاب آخر له بعنوان (مختارات شعرية) بترجمة حسن حلمي، وبتقديم الشاعر محمد بنيس، الصادر عن دار توبقال بالمغرب. أحبُّ الشعراء الذين ولدوا قرب الانهار، وظلت الطبيعة نابضة في قصائدهم. كتب هلدرلين نصف قصائده تقريباً، متطامناً مع الطبيعة، : “اليك أيتها الجُّزر، قد يأخذني الإله، الحارسُ يوماً، لكنَّ فكري آنئذ لنْ يكفَّ عن البقاء في نيكار* الحبيب، ذي المروج الفاتنة، نيكار المحفوف باشجار الصفصاف» .  كان نيتشه يعد هلدرلين شاعره المفضل، فقد كتب عنه قبل أن يتعرَّف عليه قرّاءُ الشعر الالماني، لكنَّ مكانته لم تبلغ ذروتها إلا في القرن العشرين، عندما اهتم بقراءته الفيلسوف مارتن هيدجر، في محاضراته الجامعية، وعنه قال جملته الشهيرة: «هذا الشاعر الذي يتعلق به مستقبل الألمانيين» لذا سمّاه شاعر الشعراء. ثم تنبّه اليه في فلسفته الخاصة بالكينونة والزمن، يقول هلدرلين: «عديدةٌ مزاياه، مع ذلك/ شعرياً يقيمُ الانسانُ على هذه الارض» نافياً عن الشاعر فكرة الوجود الإنساني التقليدي، مؤكداً إقامته في الشعر. لم يكن هلدرلين يفهم كلام البشر، هذا الذي ترعرع بين ذراعي الآلهة، كما يقول عن نفسه. «يقف الشعراء في الطقس المؤاتي/ اولئك الذين لا مُعلّم لهم سوى الطبيعة، بعد أن أضطر هلدرلين الى مغادرة بيت معشوقته سوزيت قال: «المثالُ لا يمكن أن يعيش على الارض» وحين بلغ برمه من الحياة حدَّه الاقصى صاح: «هذا المناخ لا يصلح للشعراء».  ربما وقفت سوزيت، ذات الجمال الاثيني وراء تعلق هلدرلين بالاثر اليوناني، أو أنَّ الشعر هناك كان له الوقع الحاكم في نظرته للحياة والشعر معاً، وذلك متأتٍ مما تعلمه من الاغريق كما يقول محمد بنيس في مقدمته للكتاب. الشاعر عند هلدرلين مبعوث الكلمة الدافقة، وهو تصور اغريقي كما يتضح: «انَّ الالهة لتكتفي بخلودها الخاص/ ولكن السماويين بحاجة الى شيء واحد/ فهذا هو شأن الأبطال والبشر وسواهم من الفانين» لذلك كانت الآلهة اليونانية أقرب الى روحه من الإله المسيحي، وذهب في ذلك أبعد، فهو لا يرى في وجوده مواطناً ألمانياً، إنما يونانياً بحق، ولا يبدو الجنون التي تلبّسه إلا نوعاً من الصمت، الذي كان يعاينه في التماثيل، التي بجبل الأولمب. 

  إذا كانت الطبيعة قد شكّلت الجزءَ الاول من قصائده فإن نصف قصائده كانت قد كُتبت بمضمون واحد، وإن جاء بأشكال مختلفة. في شعر هلدرلين اشتباك لا سبيل لحله، قوامه طفولته الأولى المؤمنة والحياة الثانية، التي تضافرت بأوجاعها عليه. لقد أجبر هذا الفتى الأشقر الجميل على مغادرة عالم الطفولة والصبا، عالمه الغض، قرب الانهار، وبين بساتين الفاكهة، هناك، حيث كتب قصائده، وظل أمينا على الشكل الكلاسيكي للشعر، في موائمة أقرب ما تكون الى طبيعة الحياة، لكنه حين مكث في الاديرة مع الرهبان، وأجبر على إرتداء الثياب السود، الحياة التي لم يطقها، والتي شكلت الحيز المظلم في حياته، حيث أنتهى فيها الى السكن المنفرد، في البيت، الذي دخله مجنوناً، هناك انتهج طرائق أكثر تحرراً في البناء والشكل.    يقول ستيفان زيفاييج لقد دخل هولدرلن من المدرسة الى الحياة كما يدخل المرءُ بلادا معادية «ذلك لأنه عطَّل من الداخل كلَّ صور الحياة التي اتيحت له. لذا نجده يقول: «منذُ زمنٍ ولّى-ويبدو أنَّه ولّى من وقتٍ طويل-/ صعدَ الى السَّماء كلُّ أولئك الذين جعلوا حياتنا سعيدة».


* نهر في المدينة التي ولد

الشاعر فيها