انتخاب السؤال واستقراره في جمالية النص

ثقافة 2023/03/23
...

 ميثم الخزرجي 


ثمة أسئلة عظيمة لها مدارها الفعلي واستحداثاتها الناجمة عن طبيعة الواقع الذي تشع منه لتكون مستقرة وخالدة فتأخذ مساحتها بكثرة الأجوبة وتأويلاتها التي تنعم بها وهذه حاجة مرتبطة بقيمة الإنسان وحضوره منذ نشوء الخليقة لحد لحظة الكتابة وما بعدها أيضاً، لعل ما يشغل سعة التفكير هو السبب الذي دفعنا لنسأل، هل هو الشك، أم الفطرة التي جبل عليها الفرد في كيفية التعاطي مع الحياة بجميع تفاصيلها وقضاياها الكبرى، أم أن هناك دافعاً نسقياً غريزياً لا يكبّله قيد يمكّنه من الدخول في معمعة السجال ليجترح لنا كوناً مغايراً معبأً بسيلٍ من الضرورات المترتبة على هاتيك الأسئلة أم لعله يأتي كرد فعل تبعاً لحالة معينة الزمت به.

فلو آمنا أن المذكور أعلاه مبررات محكمة وكافية للسؤال، لكن كيف لنا أن نمرر هذه الأسئلة وندسها داخل المتن الأدبي؟، وما هي صورتها وملامحها التي تظهر بها؟، وهل ثمة مساحة كافية تستوعب غرضها وتفي حقها في ماهية التوظيف؟، وهل أن وظيفة الأدب يسأل أم يشير ويطالب وفقاً لخصوصية الطرح وغرضه؟، هل أنّه مصداق لكي يبرر ويدلي برأيه ضاماً إليه كم الآراء الإشكالية ليخرجها إلينا من خلال النص.

 أولاً علينا أن نعي جيداً ونؤمن بالفصل والتفرد بين نظريات المعرفة المشيدة بالسؤال وهمه، وبين الطابع المعني بالأدب وما يتضمنه من سياقات تبعاً للهاجس والعدة فضلاً عن الهيكلية المؤسسة له، فالأول نظرية لها معاييرها ومتبنياتها الجادة التي تحلل وتفكك وتقوّم فتبذل جهدا لإعطاء رؤية لها استدلالاتها وكشوفاتها الخالصة والباعثة إلى النقاش والمغايرة، وقد يبنى على أساسه الاختلاف في كيفية التعاطي مع البعد الإجرائي المترتب على الإحاطة بماهية السؤال إزاء الفيلسوف نفسه وفقاً للحالة الزمكانية المنبثق منها وطبيعة الحياة بجميع تقلباتها واستحداثاتها العلمية والاجتماعية بل حتى الإعلامية كونها مفصلاً مهماً لوجهة حضارية قارة، لكن تبقى الورشة الذهنية التي تسعى إلى خلخلة السائد والحتمي والمتوارث واحدة بصورتها الأولى مع الفارق في الطريقة والتصرف واستدعاء الإشكالي منها لتبان السمة التي يعرف من خلالها الفيلسوف، لعل اللغة التي ينطلق منها تعد حالة ملاصقة نستطيع أن نميّزه بها عن الآخر لتبرز معناه ومنهجيته، فقد اتخذ كثيرٌ من الفلاسفة لهم مساراً معيناً عن طريق اللغة وما يلتصق بها من تراكيب للوصول إلى الغاية ليكون هذا المنحى أمارة وعلامة للتعريف.

أما في ما يخص المشغل الأدبي، أجد أنّ من أهم ضروراته الدافع الإنساني للكتابة، قد يأتي كوثيقة اجتماعية أو تاريخية لها ممكناتها أو ما لحق بإنسانها من ويلات وخيبات مانحاً له مدوّنة تستقرئ كم المخاض الذي سوّره وقد يتفق هذا الدافع مع البعد الفكري والفلسفي ليشاطره ويستفاد منه في التعبير عن هذه الأزمة أو يتحسس معطياته وقد تجد بعضاً من ارتساماته الباحثة منغرسة داخل النص بيد أن المفارقة هي استكناه العدة الفنية وطغيانها على المتن، فالفكر يأتي متسلسلاً في طرحه متضارباً في رؤاه، بينما الأدب فن خالص في لغته واتساقه العام وقد يتماهى ويستجيب لحيثيات السؤال ومعناه فيأتي مطواعاً في استمالة مضمراته ليضيء النص ويعطي توسعة تعضّد من وهجه.من الواضع أن ثمة نعوتاً وكنى وصلتنا على مدى التاريخ العربي أشادت بدور الأديب الفيلسوف أو صاحب النظرة النازعة نحو السؤال لعل المعري من أوائل الشعراء الذين التصقت بهم هذه الصفة وقد استطاع أن يوقد معناه بإمساكه العصا من المنتصف من خلال إيفاء غرضه باشتغالاته الشعرية المتسائلة التي تفضي إلى هم جدلي غايته الكشف عن المضمون الناتج من فحوى السؤال، وهنا تبان مقدرة الشاعر على التعاطي مع أمور فكرية جاءت من تكريس الذهني وطلائه بالبلاغي مع الحفاظ على استقرار المتن وفقاً للوازم الفني منها بحيث لا تكون الغلبة التي تبرز وجه النص بمثابة طرح معرفي خالص, ليطغى عليه صبغة فكرية تلهث نحو استحصال اليقين والخروج به إلى مناطق مشوشة، فليس من وظيفة المتن الأدبي أن يدّور هذه المفاهيم أو أن يكون واعظاً منبرياً ينوب عن الردود الغيبية التي تفسر تبعاً لمعتقدات لاهوتية أو كتب منزلة أو سجال ديالكتيكي على حساب الجمالي من النص. واقعاً أن تلاقح المعرفي بالفني رهان عظيم بغية اعطاء متون محلّقة ذات روح تنكل بما هو غير قابل للناقش لتؤسس معنى جاداً يستنطق الأبدي منها وأن كان من المحرمات شريطة أن يكون هذا التلاقح متسقاً ومتفقاً مع مقتضيات الجنس والشكل الأدبي، لذا نجد أن كثيراً من الأدباء ارتبطت نصوصوهم بالفلسفة من دون السيطرة على اجتراحاتها المنطلقة لتنغلق غالبيتها بعلامات استفهام وكأنك تحاول أن تبحث عن حلٍ لفوضى التساؤلات المستشرية في هذا العالم لتفهرسهم كشعراء مستبعدين عن الروح التي تسكن ذات الشاعر وماكنته

الجماليَّة.