أنسيلم كيفر.. هياكل الحياة والموت

ثقافة 2023/03/25
...

ترجمة: رامية منصور


«أنا لا أرسم لأنَّ القماش فارغٌ أو لأنَّه ليس لديَّ أيُّ شيءٍ آخر أفعله. أشرع في الرسم عندما أصاب بصدمة. عندما يغمرني شيءٌ ما، يحركني شيءٌ أعظم منّي. يمكن أن تكون تجربة حقيقيَّة مع شخصٍ ما أو منظر طبيعي أو قطعة موسيقيّة أو قصيدة. يقول النقاد إنّني أهدف إلى التغلب على الأمور، ولكن في الواقع، أنا الشخص الذي طغت عليه الأمور باستمرار. هذا ما يحدث عندما أبدأ العمل. إذا كنت لا تشعر بالإرهاق والارتباك والقلق، فلماذا أنت على قيد الحياة؟ نحن هنا لنشعر بالارتباك والقلق وبخلاف ذلك، فلا يوجد سبب لوجودنا”.

في مارس 1945 والحرب العالمية الثانية تضع أوزارها.. سقطت القنابل على دوناوشينغن، على تقاطع سكة حديد بجوار منزل أهل أنسيلم كيفر يومها كانت أمّه حاملاً به ليولد في قبو المستشفى.

يعد أنسيلم كيفر منذ سنوات عديدة واحدًا من أكثر عشرة فنانين شعبيّة في العالم. وقد كان دومًا متميزًا بنتاجاته الفنيّة وفلسفته في الحياة والفن. صحيح أنّه كان تلميذًا لدى الفنان جوزيف بويس، إلا أنه لم يكن أبدا تابعًا لمدرسته. انتقل مع لوحاته الملفوفة فوق ظهر سيارة فولكسفاغن خنفساء إلى دوسلدورف، لكي يعرضها على بويس.. لوحاته التي لم يرسمها بالطريقة التقليدية، الطريقة التي تمر عبر الفكرة التي يليها تخطيطيات في دفتر الرسم ثم التنفيذ على سطح قماش اللوحة. “كان عليَّ في هذه الحال اعتبار أن النتيجة معروفة ويجب الوصول إليها من دون مقدّمات، وهذا لم يكن ممتعًا بالنسبة لبويس إطلاقا”. إذ إنَّ لوحاته قريبة من اللا شيء، وأبعد ما تكون عن الاكتمال، حسبما ذكر له في إحدى المرات.

« الفن هو رغبة متّقدة وشغوفة. لن تصل أبداً، لكنك تستمر على أمل أنك ستفعل ذلك «..

يحتاج أنسيلم إلى مساحات كبيرة لإنجاز أعماله. لوحاته لا تنتهي بسهولة وقد تعرض وهي غير مكتملة، بالنسبة للمتلقي على أقل تقدير.. يجب أن يعيش مع لوحاته أطول فترة ممكنة.. لذا فاللوحة الواحدة تأخذ وقتًا طويلاً قبل أن تخرج للعلن بغض النظر عن تاريخ إنجازها.. سنتين أو ثلاث سنوات ويعود لتأملها من وقت لآخر ليرى ما إذا كانت قد وصلت إلى الحالة التي تكون صالحة للعرض.. «لا أعتقد أن اللوحة قابلة للانتهاء أبدًا. إنها في حالة تغيّر مستمر، إنها في حالة حركة».

إنَّه يؤمن بأنَّ عليه مسؤوليَّة لا مهربَ منها وهي خلق الفن في عصر الدمار.. تدفعه رغبة عارمة في التصدّي لذلك الإرث الثقافي المظلم، ولو تأملنا استخدامه لمادة القش، للاحظنا فلسفة الاحتراق الخاصة به، إنّه يحرق ذلك الماضي ليستخرج منه طاقة لمواصلة الحياة وصناعة ثقافة جديدة رغم أنها تحمل الألم والقلق والاكتئاب لكنها حيوية لا تستسلم لأنها خرجت من تحت ذلك الرماد الناتج عن الاحتراق.. ولهذا نرى أن لونه المفضل هو الرمادي، «لون الشك» وعدم الاعتراف بوجود قناعات أو ثقة في شخص أو سلطة أو أيديولوجيا!

يلجأ كيفر إلى عنصر الضخامة، وهي أحد العناصر التي تدعم العمل الفني الإبداعي عبر التاريخ، لتكون الضخامة تمثّلاً شاخصًا للرمز وكأنَّه يعيد إنتاج الأحداث الهائلة التي غيرّت مسيرة البشريَّة أو كانت لها بصمة إيجابية أو سلبية حملتها ذاكرة الشعوب عبر العصور.. ومع الضخامة يحتاج أنسيلم للمساحة التي تعرض فيها أعماله المجسّمة، بالخصوص، حيث تشكّل المساحة المكانية للعرض جزءًا لا يتجزأ من بنائية العمل التشكيلي، إذ إنَّها ليست حيزًا للعرض بل هي مكمّل كبير لعناصر عمله الفني ومن دون المساحة ينهار العمل 

بأكمله.. 

تأثّر أنسيلم كيفر بفلسفة الحضارات والأديان القديمة وخرج منها بقناعات خاصة انعكست على نتاجه الفني وحياته.. لهذا نراه يراعي في إنشاء أعماله حالة التوازن بين قيم الفوضى وقيم النظام، إذ يلعب لعبة سياسيّة كما أرى أو لربما كانت كونيَّة، كأنَّه يعي فلسفة الحياة التي وإن كانت عبارة عن صراع بين الخير والشر إلا أنها يجب أن تُبنى على التوازن بين الطرفين لإعطاء معنى وديناميكية للحياة فلا يجب على الخير أن يسود ولا يجب على الشر أن يسود؛ لأنَّ كلا الحالتين يصيب الحياة في 

مقتل!