الرغبة الجنسيَّة المضمرة في الخطاب الهزلي

ثقافة 2023/03/25
...

 محمد حاذور

تحفل حياتنا اليوميَّة بالكثير من الأمثال والنوادر والشتائم المربوطة بالأعضاء الجنسيَّة. تستخدم هذه المحمولات في أغلب المواقف واليوميّات والأحداث. في السراء والضراء وفي المتاعب والمسرّات، في النشاط والحيويّة والتعب، ويكاد لا يمر يوم على الفرد من دون استخدام هذه الأوصاف والنعوت. لكن على العكس من ذلك أن الأذن المتآلفة مع المفردات الدمويَّة والإرهابيَّة والقاتلة تتفاجأ بسماع المفردات الجنسيَّة أو أسماء الأعضاء إذا طرقت في حديث ما.

ولم تقتصر الرغبة الجنسيَّة والأعضاء التناسليَّة على إبقاء الكائن البشري حيَّاً ومتناسلاً وإدامة الحياة على وجه الأرض فحسب، إذ تطور مفهوم الجنس ودخلت فيه الكثير من الغايات والأهداف لا سيما قضايا الشرف والأخلاق والعفة وأثيرت نزاعات وحروب وتغيّرت الكثير من المسارات التاريخيَّة جراء قضايا تخصُّ الجنس والرغبة والعلاقات الغراميَّة. ومن الأخطاء الشائعة بصورة كبيرة جداً، تكريس التبادل الجنسي وتعاطيه على الأعضاء التناسليَّة فحسب، وسبب ذلك متأتٍ من الجهل بمعرفة الثقافة الجنسيَّة في المجتمعات التي يكون عندها الجنس من القضايا المحظورة والممنوعة. يزعم الباحث العراقي جابر خضير في أن كتابه الصادر عن دار شهريار "الفكاهة الجنسيَّة عند العرب، بحث في مضامينها وآليّاتها ومظاهرها السلوكيَّة" هو أول كتاب يسلّط الضوء على مثل هذه الظاهرة الكبيرة الموجودة في الكثير من متون التراث العربي، لكنه لا يغفل الإشارة إلى فصول بعض الكتب التي تناولت ظاهرة الهزل والفكه لكن دونما تفصيل ونبش المضمر وبحث متقصٍ عمّا تحمله من مضامين ومآرب متعددة. أول ما ينبغي أن نتعرض له بالتساؤل عنه، لم ترد الملح والنوادر الجنسيَّة مبثوثة في متون التراث العربي والإكثار منها على حساب النكات في بقية الأبواب الاجتماعيّة والسياسيّة وغيرها. يستعين الباحث للإجابة عن هذا السؤال بأبي حيان التوحيدي من كتابه "البصائر والذخائر بتحقيق وداد القاضي. يقول التوحيدي: "والفكاهة الجنسيَّة في هذا السياق لا تؤدي دوراً إمتاعياً يؤهل النفس للتقبّل المعرفي فقط، بل تعد عاملاً يزيد الطاقة الاستيعابيَّة للعقل ويفتح مدارك الذهن، ولذلك كان الإعراض عن سماع الهزل عندهم مما ينقص الفهم ويبلد 

الطبع".

كان الفقيه والقاضي والأديب في القرون الهجريَّة المبكرة من التاريخ العربي قد وضعوا الكثير من المؤلفات المعنية بالقضايا الجنسيَّة وبرعوا في الالتفات الى تفاصيل تخص الجماع وطرق المتعة وآليات تسهم بتأجيج الرغبة. كتب النفزاوي والتوحيدي والتيفاشي والسيوطي وأبو نواس وبشار بن برد وغيرهم الكثير، ومما يؤسف له، أن انحسر وشحَّ هذا الجانب من التدوين والتأليف في العصر الحديث ان لم يكن قد تلاشى. ترتبط الفكاهة بالجنس في المجتمع العربي قديمه وحديثه بناءً على المنع والحد والحظر لهذا السلوك، إذ يقول الفيلسوف الفرنسي هنري برغسون في كتابه "الضحك": "إنَّ النكتة هي محاولة قهر القهر، وهتاف الصامتين، إنَّها نزهة في المقهور والمكبوت والمسكوت عنه". بمعنى آخر، إنَّ الفكاهة الجنسيَّة هي ثورة خطابيَّة عبر اللغة من أجل تمرير الرغبة والإفصاح عنها والتصريح ببلاغة مضمرة عن الميول.

جاء الفصل الأول بتسليط الضوء واستكشاف مظاهر السلوك الجنسي وارتباطه بالفكاهة الجنسيَّة، فدرسه في اللواط بوصفه مؤسسة وعلامة على القوة وارتباطه بالسلطة الجنسانيَّة وبكونه مهنة فضلا عن أنواعه وأعلامه والسلوكيات المرتبطة به، فضلاً عن الكثير من المظاهر الجنسيَّة.

عن مظاهر اللواط أو المثليَّة الذكوريَّة يقول الباحث في كتابه إنّها "ممارسة شائعة في أغلب الحضارات الإنسانيّة القديمة، وتعد الحضارتان الإغريقية والرومانية من أكثر الحضارات احتضاناً لمثل هذا السلوك الجنسي... فاليونان كانت اللواطة عندهم نمطاً حياتياً وأسلوباً في التفكير وموضوعاً للجدل الفلسفي". وعن حضور مظاهر اللواط في المجتمع العربي الاسلامي وحضارته، فإنّنا سنجده مظهراً في غاية القوة من الحضور وقد يضاهي مكانة المرأة وحتى التفوق عليها، وما جاء به الجاحظ في المفاخرة بين الجواري والغلمان تشير إلى الصراع الجنسي بين الطرفين وولادة الذائقة المتحولة نحو جماليات الغلمان فضلا عن احتفاء القرآن بهم. يشير الباحث إلى أسباب تفشي مثل هذا السلوك الجنسي: "إلى عوامل داخلية كثيرة تقف وراءها مؤثرات دينية واجتماعية تتجلى بشكل أساسي في الموقف من المرأة ودخولها في المجال العام، فحجب المرأة وغيابها عن هذا المجال قد يؤدي إلى التعلق بالغلمان بوصفهم البديل الجنسي عنها".

في الفصل الثاني، ينطلق الباحث متقصياً مضامين ومحمولات الفكاهة الجنسيّة، فيسلط بحثه الضوء على الجانب العدواني من الفكاهة الجنسيّة. ينطلق الخطاب الساخر أول ما ينطلق من سلطة ما، سواء كانت معنوية أو مادية أو تفوقية بنظرة المجتمع، فيمارس عبر سلطته هذه عدوانية تجاه فئة أقل شأناً ومكانة. إذ ما زال المجتمع العربي يسخر وينتقص من الذكر الذي لا يستطيع إنجاب الأطفال وتجاه المرأة كذلك. والنقيض من ذلك يمارس المجتمع حقده على من تكون ذريته أولاداً فقط أو يحقد عليهم من تكون ذريته فتيات من دون وجود ذكر بينهن. هذه المناوشات بين هذه الفئات محركها الأول هو الإحساس بالتفوق أو العكس منه وهو الشعور بالدونيَّة والنقص.