قصيدة النثر واشتراطاتها وإشكالياتها ومضامينها؟

ثقافة 2023/03/24
...

  قحطان جاسم جواد


استكمالا لتحقيق سابق حول (قصيدة النثر إلى أين) شارك فيه بعض الشعراء منهم فاروق سلوم ود. سعد ياسين يوسف وجاسم العلي وأحمد البياتي، نكمل بحثنا عن قصيدة النثر واشتراطاتها واشكالها ومضامينها وسهولة كتابتها مع مجموعة أخرى من النقاد والشعراء.

وهنا يتفق النقاد والشعراء ودارسو الأدب الحديث والمعاصر على أنَّ قصيدة النَّثر وفق اشتراطاتها الحقيقيّة هي من أصعب أشكال الكتابة الشّعريّة وليس أدل على ذلك من مقولة (أندريه برايتون) التي أكد فيها: "ما منْ شيءٍ أصعبُ هذهِ الأيام، من أنْ يكونَ الإنسان، شاعر قصيدةِ نثر".

ومن المعروف أنَّ قصيدة النَّثر بشعريتها الفارهة لا تعتمد على القوالب الإيقاعيّة والوزنيّة الجاهزة في كتابتها كما في قصيدة العمود والتَّفعيلة وقد استعصت على القياس بكلِّ الأشكال الشِّعريّة السَّابقة، لذا فقد شكلت خرقاً للمألوف واقتربت وتشابكت مع الأجناس الأدبيّة الأخرى، لكنها بقيت ومنذ أكثر من خمسين عاماً كياناً مستقلاً ومتفرداً باشتراطاته الفنيّة والجماليّة.


تدفق الصور

يقول أستاذ النقد الحديث أ. د عبد الرضا علي، إن: قصيدة النّثر تعتمد التّكثيف وتدفق الصور الشِّعريّة وترابطها وصولاً إلى الدَّهشة التي تُحدثها لدى المتلقي فيما يتشكل إيقاعها من التوازي والنبر في الحروف والجمل والتّضاد في المفردات وتناغم موسيقاها وبذا يكون لكلِّ قصيدة نثر إيقاعها الذي ينطلق من الحالة الشّعورية التي يكتب تحت احتدامها الشّاعرُ حتى أنَّ (سوزان برنار) وصفت ذلك الإيقاع بأنَّه "يسري كما يسري تيارٌ كهربائيٌّ، غير مرئيّ، عبر سلك غليظ ليغرقنا بالنُّور فجأَةً".

أما ما يتعلق بكثرة من يكتبون قصيدة النّثر، فلا بأس بذلك لأنَّ ما يبقى هو الشّعر الحقيقيّ والرَّصين، "وأنَّ القابضين على جمرة قصيدة النّثر قليلون"، وكل ما عدا ذلك يذهب كما الزَّبد ويظلّ مجرد خواطر عاطفيّة قد لا تكتمل فيها حتى شروط كتابة الخاطرة رغم المساحات التي أتاحتها لهم مواقع التّواصل الاجتماعيّ.

وأما ما يتعلق بالسَّرد فهو ضروري في قصيدة النَّثر وتختلف أشكاله وتتنوع ويجب توظيفه لصالحِ الوظيفة الشِّعريّة الَّتي تهيمن على بنيات الخطاب وإنتاج جمالياته، الشَّأن الَّذي يغدو معهُ السَّرد عجلة تدُور علَيها الفاعليّةُ الشّعريّةُ، وما عدا ذلك فهو سردٌ مملٌ لا وظيفة له وهو أبعد ما يكون عن قصيدة النَّثر.


سهولة الكتابة 

وقال الناقد الدكتور حاتم الصكر: سوف أبدأ إجابتي بالتوقف عند مقولة بريتون المقتبسة في الاستفتاء (ما أصعب أن يكون الإنسان في أيامنا شاعرَ قصيدة نثر). 

ذلك أننا نعاني من تصور سهولة كتابتها من لدن بعض الشعراء. 

ويقابلهم في ذلك التصور أو الوهم متلقون نسقيون، يرفضون عدَّها نوعاً شعرياً جديداً، بسبب استغنائها عن عناصر الموسيقى الشعرية التقليدية المكرَّسة عبر التفعيلات والقوافي.

تلك الصعوبة في كتابة قصيدة النثر تأتي من كونها لا تستند إلى قواعد ثابتة ونهائية. ولا تقدم أنموذجاً يُحتذى بسهولة. هذه الميزة - كونها بلا مرجعية نظمٍ - تجعل ممارسة كتابتها، وقراءتها أيضاً، شائكة وعسيرة. فهذه الفرادة، وانتساب قصيدة النثر إلى نوع زئبقي غير متعين، تجعل مسؤولية كتابتها ذاتية. ولاعتقادي بذلك قلت (إن لكل شاعر قصيدة نثر)، استيحاء من محررَيْ كتاب (مقدمة لقصيدة النثر- أنماط ونماذج-) اللذين يقرران قاعدة مرنة بقولهما، إن: هناك أنماطاً لقصيدة النثر بقدْر ممارسي كتابتها. ولكن المقايسة بينها، والأنماط الشعريّة المعروفة توسِّع المسافة المطلوبة لتقبِّلها. إنّها تنشأ نافرة عن تلك القواعد. فقياسها على أساسها يمثل مصادرةً منطقيَّة.

ويجني بعض كتّاب قصيدة النثر عليها كثيراً في المستوى التداولي، لما يقدمون من كتابة خالية من إيقاع بديل، يحاط بالمعرفة ولا يُدرك بالوصف. ولغة شعرية ترقى للوظيفة المبتغاة منها. وبدور الصورة والمخيلة الحرة، والتناص النوعي مع السرد. لن تظل قصيدة النثر تلك الثمرة المحرمة في شجرة الشعر المورقة.. ستكون من أكثر ثمارها متعةً ودهشة وحداثة.


حركة تجديديَّة 

من جهته، أشار الشاعر حميد قاسم إلى أن هاجس التغيير قاد شعراء قصيدة النثر، مهما كانت دواعيه وأسبابه، والاحساس برسوخ نظام صارم آخر بديل عن النظام التقليدي السابق، إلّا أن مستوى الانجاز في قصيدة التفعيلة كان دون مستوى وعيهم وطموحهم في التغيير. وهذا ما أراه منطلقا لحركة تجديديّة تتواصل مع الثورة التي أحدثها الرواد من خلال تجربة الشعر الحر، بل إن هذه الحركة هي امتداد منشط لهذه الثورة للخروج عن الأطر الضيقة، واكتشاف آفاق جديدة، حد منها ظهور صيغة جديدة رسخها خفوت المغامرة الشعرية والركون إلى السكونيّة والاكتفاء بما انجز من تطور في الاشكال والموضوعات والمضامين. وأضاف "لقد كان نظام التفعيلة المستعار من الشعر التقليدي مجتزأ على أنه أساس النظام الصوتي الذي لا يتكرر. الذي يجعله أدق وأخص من نظام البيت الشعري، فالسطر الشعري لا يخرج عن أنّه مؤسسٌ على واحدة من التفعيلات (فعولن، مفاعيلن، فاعلات، مستفعلين، متفاعلين، فاعلن، فعلن) ما قاد - من ثم- إلى جعل كل قصيدة تكتب وفق نظام التفعيلة، تقليدا لقصيدة سبقتها من موسيقى البحر نفسه بشكل أو آخر، مثلما كانت كل قصيدة تقليدية من بحر الرمل أو الكامل أو الطويل، الخ، تقليداً لسابقتها من وزن آخر محدود التفعيلات في كل شطر من البيت الشعري، ومع ان الشاعر لا يلتزم بعدد التفعيلات لكنه يلتزم بالتفعيلات ذاتها، وستتجلى هذه المحدودية حين نقارنها بالإمكانيات اللامتناهية التي توفرها قصيدة النثر، بحيث تحرص كل قصيدة على إبداع قانونها الخاص وتطويره بحيث لا يمكن لأي قصيدة نثر لاحقة من تقليده ايقاعيا، ما دام هذا القانون الايقاعي نابعا من القصيدة ذاتها، مستغنيا عن الميزة الموسيقية التي يقدمها الوزن والقافية.

 

قبول جماهيري

في حين أشار الشاعر منذر عبد الحر إلى (عرف الشعر العربي بأنه كلام موزون مقفى، وكتبت تحت هذه اللافتة كمية هائلة من القصائد التي التزمت تفعيلات بحور الفراهيدي، مئات السنين، حتى جاء الشعراء الرواد بدر شاكر السياب ونازك الملائكة وعبد الوهاب البياتي ومن جايلهم او تبعهم ليكسروا القالب التقليدي، وجعلوا الشعر منثورا، ولم يلتزم بقانون الشطرين، وقد جوبهوا بردود أفعال قاسية، حتى صاروا الوجه الابرز للحداثة الشعرية، وبعد أن سادت قصيدة التفعيلة او الشعر الحر كما اسماه النقاد والدارسون فترة الستينات والسبعينات بدأت حومة قصيدة النثر بعد أن أدرك الشعراء ان القوانين المفروضة على الشعر تجعله ذا سقف فني وتعبيري محدود، لذلك خرجوا من إطار المفهوم القديم ودخلوا في ميدان التعبير الفني من باب أوسع ارتبط هذا الخيار بوعي الشعراء وعمق تجاربهم واطلاعهم على نماذج متنوعة وتجارب عالمية. واستطاعوا ان يؤسسوا قصيدة نثر عراقية خالصة، قدموا من خلالها أصواتهم التي اثبتت حضورها بقوة لتكون واقع حال في المشهد الثقافي، ولتحقق قبولا جماهيريا، لأنها كسرت الرتابة، ونهلت من هموم الإنسان وقضاياه موضوعاتها، على الرغم من آلاف الدخلاء على هذه التجربة، وهم من قليلي الموهبة والجاهلين في اللغة وآفاقها، وأغلبهم يكتبون اما خواطر بسيطة، أو تهويمات وثرثارات لغوية لا علاقة لها بقصيدة النثر، لذلك حين أتحدث عن نجاح وسمو تجربة قصيدة النثر فأنا أعني شعراءها الحقيقيين الذين يجيدون خفايا اللغة وقواعدها، ويعرفون أن قصيدة النثر تجربة ذات رؤية جمالية وفكرية عميقة، عليها ان تستبدل موسيقى التفعيلة بنسق لغوي ذي إيقاع تنسجم فيه المفردات والجمل والبناء المحكم للنص الشعري الناجح، الحديث يطول ويتشعب عن هذه الظاهرة المهمة لأنّها ذات أبعاد وآفاق وأفكار وملاحظات تتطلب وقفة تأمليّة تطول.