تمثّلات السلطة البطريركيَّة في طقوس الحطب

ثقافة 2023/03/25
...

 د. سعد عزيز عبد الصاحب 


ينحو النص الدرامي الذي دوَّنه الكاتب الموصلي ابراهيم كولان إتجاها تعبيريّاً اتخذ من لواعج اللاوعي ومكبوتاته سبيلا لانتاج الصراع الدرامي ونحته لاسماء الشخصيات بوصفها أنماطا تجريديّة كالأب والاِبن والضمير ونسق المحطات المأساوي وجلد الذات الذي يؤدي إلى فعل التطهير في النهاية، إذ تمر شخصيتا الِابن والضمير بمحطات زمكانية تراجيدية يتم تجسيدها وصولا إلى النهاية الدائرية التي اقترحها العرض.. ينفتح نص "طقوس الحطب" على شعريّة عالية في صياغاتها الأدبيّة أو تتجه في أحيان نحو الخطاب المباشر الذي يحتفي بالماضي على حساب الحاضر أو المستقبل فالنص ناستالوجي أو استعادي يراجع فكرة الحرب وعدميتها والكراهية والحقد والانتقام الذي تخلفه في ضوء أب بطريركي عاشق للحروب يوقظ أبناءه لصلاة الفجر ويدعوهم لتلبية نداء الحرب فالأعداء على الأبواب، هنا يرفض الضمير المنشطر عن الاِبن تلك الدعوة ويحتج على الأب فهو الذي يسرد المسكوت عنه والمضمر في دواخل الابن ليستعرض الضمير ما نالهم من أهوال الحرب ومصائبها والتي لا انتصار لأحدٍ فيها، ينشغل النص الدرامي بتلك الثنائية التي زرعت منذ البدء في العنوان (طقوس الحطب) وما يضمره من دلالات خبيئة قمين بنا أن نفجرها وننفتح على معانيها، فالطقس الذي يقف وراءه الأب البطريركي الديني وسلطته العقائدية القسرية التي تسيِّر القطيع وتقوده اينما تريد وترغب تحاول أن تؤكد للناس أن الحرب هي بإرادة علوية، والمعنى الثاني للكلمة الثانية للعنوان (الحطب) هي الناس التي تذهب وقوداً بسبب هذه الحرب لرغبات رجال الدين كونها حرباً مقدّسة على الجميع أن يلبي نداءها ويذكيها. إنَّ النص في ثيمته المركزية يدين الحرب وظواهرها من منطلق مسيحي تسامحي يجنح الى السلام والغفران والصفح والاتجاه التعبيري في بنية النص تساوق مع حبكة المسرحية وشكلها ومبناها الذي اتخذ مفازات ومثابات انفتحت على انساق متعددة كانتظار المخلص و(الحج) و(الاعتراف) و(البوح) فالاِبن/ الضمير يسرد اعترافاته وما حصده من مآسي الحروب والمنطلق الصراعي في المسرحية هو التمرّد والاحتجاج على وصايا الأب من قبل الضمير الداخلي الذي هو الشخصية الضد المقابلة للأب والمنشطرة عن الابن الخانع.

عمل المخرج نشأت مبارك على انتاج نصٍّ موازٍ اعتمد في بنائه على الأسلبة والتجريد البصري والكرنفال الاحتفالي الطقوسي الباختيني (من باختين) المرتبط بالمراسيم والقداس الكنسي على وجه الخصوص وهو بهذا التوجه أخرج المسرحية من خطابها المباشر والممل الذي قد يصاب به المتلقي بفعل رتابة الحوار وصرامته واطنابه في بعض الحالات.. إذ اعتمد المخرج على استنطاق الميلودي الموسيقي وانتاج قيمة طقسية مزجت بين الطقس الديني الاسلامي والمسيحي السرياني بأنساق وتشكيلات متنوعة كحركات اللطم في التعازي الدينية والدروشة الصوفية وغيرها.. فهل وفق المخرج في التعبير عن مكنونات ودلالات نصه الدرامي الذي اختاره؟ فمنذ مشهد الاستهلال نستمع لهذا المزج البوليفوني المتقن بين اصوات دقات اجراس الكنائس والاذان الاسلامي يضمر في تلافيفه ان السلطة الدكتاتورية الدينية هي واحدة وأن تنوعت اصواتها.. فالأب يد على الزناد ويد اخرى على جهاز اللاسلكي يعطي الأوامر لبدء الحرب المزعومة وفي الأعلى رايات الحرب معلقة ومكتوب عليها سنوات الحروب التي خاضتها البلاد 1980 و1991 و2003 و2006 و2014 كأنها مفازات ومثابات في الذاكرة لا يمكن محوها وهي اشارة ذكية لو عززت بشعاع ضوئي لتوضحت أكثر في فضاء العرض بالنسبة للمتلقي. حاول المخرج أن يضيف مجموعة من النسوة لفضاء العرض يلبسن ملابس من التراث السرياني موحدة كأنها مجموعة السبي البابلي التاريخية في المثولوجيا العراقية والسبي "الداعشي" للنساء الايزيديات، فكان مستوى الضبط الجمالي لحركة المجموعة مع الميلودي الموسيقي الطقسي قد ثوَّر من الصورة الابداعية للعرض على مستوى الشكل، فضلاً عن لدخول مجموع النسوة في مشهد المزاد الذي أحالنا لتلك اللحظة العصيبة في تاريخ النساء الايزيديات المعاصر، تشي علامات العرض الاكسسوارية بمدلولات عمَّقت من المضامين الدرامية ومعانيها فكان هناك شرشف بسيط تعامل معه الاِبن وحوله إلى عديد الدلالات والبدلات العسكرية التي انتهت وظيفتها التداولية بالاحتجاج عليها ورفضها، وازياء الممثلين فالاب يلبس البيجامة كونه عسكريا سابقا وهو دلالة زي العسكري المتقاعد والعصا التي تحولت عصا للتبختر وبندقية صوبت نحو الاِبن وسطل ماء تمت ممارسة تعذيب الابن فيه والشموع والبخور وغيرها من الأشياء المسرحية التي عمّقت من طقسيَّة العرض ولم تثقل كاهل الفضاء المسرحي.

كانت حصة إبداعيّة الأداء التمثيلي لممثلي مسرحية (طقوس الحطب) واضحة لما توافر عليه الممثلون كل حسب الشخصية الدرامية التي اضطلع بأدائها، فالممثل شوقي حكمت الذي قام بدور الأب قدم نمطا أدائيا منضبطا للعسكري المتقاعد الفظ والذي تقف وراءه تربية دينيَّة صارمة ومتطرَّفة وعقائد ملزمة، فجاء صوته مسموعا وجسده مطواعا ولغته سليمة جانبت اللحن والأخطاء اللغويّة والنحويّة، وكذلك الممثل وسام بربر أعطى لشخصية الابن الخانع والمستكين لطلبات الاب تصورا أدائيا كاريكاتوريا نتيجة استعباده فصار روبوتا ضمن قطيع الروبوتات وصار دمية مسيرة، اما الممثل صدام سالم، فكان صوتا احتجاجيا بامتياز رفض وصايا الاب وفروضه باتجاه تكوين أدائي حاد في وقفته وميزانسينه الحركي مع وضوح صوتي اقل من سابقيه من الممثلين، والمجموعة السريانية القره قوشية الرشيقة في تكويناتها البصرية والمكثفة الدالة عن روح المأساة وتراجيديتها كانت اضافة مائزة للعرض.

ومن المهم الاشارة إلى النسق الموسيقي الذي صمم خصيصا للعرض وهي خصيصة بتنا لا نتلمسها في عروضنا المسرحية اليوم كانت الموسيقى والمؤثرات بحضورها الجليل ونسقها المؤثر على المستوى الصوتي عاملا مثوِّرا للصورة المسرحية واحساس الممثلين وتداعياتهم النفسية بتصميم الأب دريد بربر وأنمار بربر. أخيراً يمكن أن نكتشف ما تميز به العرض من خصائص ومميزات في ضوء إعادته لانتاج الثقافة السريانيّة العراقيّة ضاربة القدم بجذورها في التاريخ العراقي وتمظهرها بلبوس درامي أدان الحروب ونتائجها.