عبد الكريم الأسدي.. ألوانٌ بتراب العراق

ثقافة 2023/03/26
...

 علي إبراهـيم الدليمي 


في العمارة، تلك المدينة الجنوبيَّة الأزليَّة الهادئة، التي لا تشبه أيّة مدينة شرقية قط، بسبب موقعها الجغرافي الخيالي حيث تغفو على مساحة مائيَّة شاسعة المنظر والجمال، مشهد أشبه بالرؤية الرومانسيَّة، وحيث طبيعتها الساحرة، وأهوارها التي تطفوء عليها تلك البيوت المصنوعة من قصب البردي بصياغة جماليَّة وحرفيَّة، وأمامها تسبح تلك المشاحيف الفلكلوريَّة، وكأنَّها حيوات مائيَّة، التي طالما تغزل بها الشعراء، وتغنى لها المطربون، والتي أنجبت العديد من فطاحل الأدب والفن والعلم في العراق.

كانت تلك أولى الدوافع الروحيَّة والنفسيَّة الإنسانيَّة، والبدايات الطفوليَّة المبكرة، التي بلورت من ولادة وإنطلاق فناننا عبد الكريم حسين الأسدي، (مواليد 1962)، الذي سرعان ما تأثر بأعمال فناني مدينته العمارة، حينذاك، وهم كل من الفنانين: عبد الرحيم البياتي، وناجي حسين، وصبيح عبود.. وغيرهم، الذين رأوا فيه كذلك البذرة والقابلية الكبيرة في الفن، وقد تعلّم منهم الكثير من تجاربهم الشخصيّة، فضلاً عن الدعم الكبير والدور الرائع للفنان المرحوم عاصم نجم، مدرسهُ في المرحلة المتوسطة، إذ سلّم له مرسم المدرسة بأكمله، وترك له الحرية المطلقة للعمل فيه. 

وبدأ، الأسدي، منذ طفولته يحاكي الطين، عندما كان بيته قريباً للنهر، وهو يصنع الأشكال المتنوعة التي يراها مناسبة وقريبة لنفسه، وكان يحصل على أجود أنواع الطين ليعمل بها تماثيل لشخصيات معروفة مختلفة فوق سطح الدار، كذلك لم يسلم إسفلت شوارع منطقته، وجدرانها، من رسوماته الطباشيريّة عليها.

وبالوقت نفسه كان يمارس تعلم فن الخط العربي، مع صديقه الفنان المعروف رعد الدليمي، وكان كذلك للخطاط عبد الرضا القرملي، في مدينة العمارة، الأثر البالغ والأساسي في تعرفه وحبه للخط العربي، وبعد ذلك دخوله في إحدى دورات الخط العربي التي كانت تقيمها جمعية الخطاطين العراقيين/ المركز العام في بغداد وباشراف الخطاط الكبير عباس بغدادي سنة 1990، فضلاً عن التدريب المتواصل على كراسة الخطاط الكبير هاشم محمد البغدادي.

لقد كانت بدايات الأسدي في الرسم خصوصاً، منذ الدراسة الابتدائية، وكانت لأعمال الفنانين صلاح جياد ووليد شيت وطالب مكي، والتي كانت تنشر في كل من (مجلتي) و(المزمار)، الذي كان ينتظر صدورهما بشغف كبير، الأثر العميق والكبير في نتاجاته الأكاديمية اللاحقة، حيث كان يحاكي أعمالهم ودراستها بكل تأنٍ وإتقان، مع شقيقه الأكبر الفنان جمال الأسدي والذي يعده معلّمه وموجّهه الأول، واللذين اكتسبا خبرة كبيرة من هذه الأعمال.. كما مارس الرسم بالزيت على القماش لأول مرة عام 1975، عندما كان طالباً في الدراسة المتوسطة.. ومشاركاته البارزة في جميع المعارض المدرسية، التي كانت بالنسبة له تشبه أيام الأعياد والأعراس، بل أسعد.. بعدها أخذ يحاكي أعمال الفنان الكبير فائق حسن، التي كان لها أيضاً الأثر الكبير والفاعل في تطوير قابلياته الحرفية في الرسم الزيتي، ومنحه خبرة إضافية واسعة فيما بعد، في لغة اللون ورمزياته والخط السريع والإنشاء المتوازن والملمس البصري.

فضلاً عن اهتمامات الأسدي الفكرية الأخرى، في الأدب والمسرح والشطرنج..، وقد شارك في جميع المسرحيات والأوبريتات في مدينة العمارة للفترة بين عامي 1976 و1980 كمصمم ومنفذ للإنارة أما بالنسبة للشطرنج فقد أسهم بجميع البطولات داخل وخارج محافظة ميسان، للفترة من 1980 إلى 1982 وقد فاز في بطولة العراق الأولى في الشطرنج عام 1981.

وفي عام 1984، نقل الأسدي وظيفته من العمارة، إلى دائرة الفنون التشكيلية في وزارة الثقافة والإعلام، في بغداد، ونسب مشرفاً فنيّاً على قاعات العرض الفنية التابعة للدائرة ما بين قاعة الرشيد ومتحف الرواد ومركز الفنون، وهناك كانت له محطة مهمة جداً في مسيرته الفنية، حيث دخل، دورة خاصة للرسم والتصميم لمدة سنة في دار التراث الشعبي، بإشراف الفنان المرحوم يحيى الدراجي والفنانة هناء مال الله وفنان مصري اسمه عبد الفتاح، وكان أيضا للفنان يحيى الدراجي دور كبير آخر في تعليمه أساليب جديدة في الرسم واللون والتصميم.. فضلاً عن اطلاعه عن كثب، على جميع الأعمال الأصلية للفنانين الرواد والتجارب التشكيلية الأخرى، ومشاركاته في جميع المعارض الجماعيَّة. 

وفي عام 1998، استقال الأسدي، من الدائرة ليواصل دراسته، ويتفرغ كلياً للرسم، في كل من معهد وكلية الفنون الجميلة في بغداد، وبعدها ينقل خدماته الوظيفية إلى ملاك وزارة التربية، مدرساً للتربية الفنية، في إحدى إعداديات البنين في بغداد، ليبتدئ بخلق أجيال جديدة، تحمل بذرات الذائقة الجمالية، تخدم المجتمع.. حتى إحالته على التقاعد مؤخراً.

وقراءة سريعة لمسيرة الفنان عبد الكريم الأسدي، حسب ما لمسته جلياً من خلال زمالتي وعلاقتي الوظيفية والفنية القريبة معه طويلاً، هو تأثره المباشر والعميق بأسلوب الفنان الكبير فائق حسن، كضربات الفرشاة السريعة، ووضع الكتل اللونيَّة.. وغيرها، كما أفاد كثيراً من ممارسته لتجربة محاكاة أعمال الفنانين المستشرقين، الذي كان يشتغل عليها لصالح كاليريات الفنية والمراسم الخاصة.. كان ذلك طوال العقدين الثمانيني، والتسعيني.. بعدها خاض تجربة فنية جديدة اتسمت بالحداثة، والمزاوجة التعبيرية ما بين المدرسة التكعيبية وفق رؤيته الخاصة، تارة.. والمدرسة التجريدية، تارة أخرى.. حيث أدخل الحروفيات الحرة وإشارات الطلاسم المتنوعة وعلامات رياضية مختلفة.. إلخ. 

بعدها رجع، الأسدي، للرسم الأكاديمي بقوة واشتياق في استلهامه للانطباعية العراقية، وعودة لتناول صور ذكرياته في منطقة الأهوار وتفاصيلها، ولكنه هذه المرة كان أكثر، تميزاً وخصوصيّةً في طريقة تناول انطباعياته الخاصة، ومحاولة خروجه من معطف الآخرين، والابتعاد عن المحاكاة التقليدية، واللجوء للشفافية اللونية الساحرة المتميزة، وكأنها رسمت بألوان معجونة بتراب العراق، والاختزال التجريدي الجميل واختياره الزوايا المتوازنة، وذلك من أجل أن يرسم له هوية فنية، وبصمة خاصة وحضوراً متميزاً، تكون أكثر شموخاً ورسوخاً وتفاعلاً في المشهد التشكيلي عموماً.

والفنان الأسدي، عضو في كل من: نقابة الفنانين العراقيين. وجمعية الفنانين التشكيليين العراقيين. وجمعية الخطاطين العراقيين.

شارك في أغلب المعارض الفنية: التي أقامتها دائرة الفنون التشكيلية في منذ عام 1987. ومعارض النشاط المدرسي في مديرية الرصافة الأولى. ومعارض مجموعة نوافذ جمالية. والمهرجانات الفنية التي أقيمت في إعداديته. وفي عام 2012 حصل على درع الإبداع من مديرية النشاط المدرسي في الرصافة الأولى وذلك تقديراً لأعماله ولمشاركاته المستمرة في جميع المعارض.